للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

سلعاً حتى بدت لنا المدينة كصفحة الكف، يحف بها النخيل، وتكتنفها الحرار، وتقوم في وسطها القبة الخضراء، تشق بنورها عنان السماء، وتكتشف لنا دنيا كلها خير وحقيقة وجمال، وعالم كله مجد وفضيلة وجلال

من هنا خرج جند الله الثلثمائة إلى بدر، فدكوا صرح الاستبداد والجهالة، ورفعوا منار الحرية والعلم، أقاموه على جماجم الشهداء، وسقوه هاتيك الدماء، فأضاء نوره الجزيرة كلها، ثم قطع الرمل، فأضاء الشام والعراق، ثم قطع البحر فأضاء الهند وإسبانية، فاهتدى به الناس إلى طريق الكمال الإنسانيّ

من هنا خرج الأبطال الذين هدموا وبنوا وعلموا: هدموا الدول المتفسخة الجاهلة التي وقفت في طريق الحضارة، فلا هي تتقدم بها ولا هي تدعها تمشي في طريقها. وبنوا الدولة التي ألفت بين فلسفة يونان وحضارة فارس وحكمة الهند، وجعلتها جميعاً سِفرا واحداً فاتحته القرآن، وروحه الإسلام، ثم جلسوا على منابر التدريس في جامعات بغداد ومصر وقرطبة ليعلموا العالم، فكان من تلاميذهم ملوك أوروبا وباباواتها. . .

من هنا خرج أبو بكر وعمر، وعبد الملك والمنصور والرشيد وعبد الرحمن الناصر وصلاح الدين وسليمان القانوني

من هنا خرج أبو حنيفة ومالك وسفيان والنووي والغزالي والفارابي وابن سينا وابن رشد

من هنا خرج خالد وسعد وقتيبة وطارق وسيف الدولة والغافقي

من هنا خرج حسان والفرزدق وجرير وأبو تمام والمتنبي والمعري

من هنا خرج الجاحظ وأبو حيان حزم

من هنا خرج ألف ألف عظيم وعظيم

تقدست أيتها المدينة. . . أم المدن، وظئر العظماء؟

وكنا قد بلغنا هذا المضيق الصخري، بين هضبتي سلع، فنظرت في خريطة للمدينة كانت معي، وقلت للدليل: أما هذا ذبِاب؛ قال: بلى والله فما يدريك أنت؟

قلت: أما هذا مسجد الراية؟ قال: بلى. قلت: هذه هي ثنية الوداع، وخفق قلبي خفقاناً شديدا، وخالطني شعور بالهيبة من دخول المدينة، والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما في نفسي من الفرح والسرور، وجعلت أتأمل المدينة، وقد دنونا منها، حتى لقد كدنا

<<  <  ج:
ص:  >  >>