للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

نصير بين البيوت، وأحدّق في القبة الخضراء التي يثوي تحتها أفضل من مشي على الأرض وقد شخص بصري وكدت لا أرى ما كان حولي لفرط ما أحس من جيشان العواطف في نفسي. . . حتى غامت المشاهد في عينيّ، وتداخلت كأنها صورة يضطرب بها الماء، وأحسست كأني قد خرجت من نفسي، وانفصلت من حاضري وذهبت أعيش في عالم طلق لا أثر فيه لقيود الزمان والمكان، فسمعت أصواتاً آتية من بعيد. . . من بعيد، وسمعتها تزداد وتقوى، حتى تبينت فيها قرع الطبل، ووعيت أصوات الولائد، يضربن بالدفوف وينشدن:

طلع البدر علينا ... من (ثنيات الوداع)

وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داع

ورأيت المدينة قد سالت بأهلها، فملأ الناس الحرّة وسدّوا الطرق، وغطى النساء الأسطحة، ولم يبق في المدينة أحد إلا خرج لاستقبال سيد العالم، وهو قادم ليس معه صلى الله عليه وسلم إلا الصديق الأعظم، لا يلمع على جبينه التاج المرصع، ولا يحمل في يده صولجان الملك، ولا تسير وراءه العساكر والجنود، ولكن يضيء على جبينه نور النبوة، ويحمل في يده هدى القرآن، وتسير وراءه الأجيال، ويتبعه المستقبل، وتحف به الملائكة، ويؤيده الله!

ثم سار وسارت وراءه هذه الجموع إلى القرية التي لبثت قروناً ضائعة بين رمال الصحراء، لا يدري بها التاريخ، ولم تسمع بها القسطنطينية، ولم تعلم بوجودها روما، فجاء هذا الرجل ليهزها وينفخ فيها روح الحياة ويجعلها أم الدنيا وعاصمة الأرض

إلى المعشر اليمانين الدين جعلوا بأسهم بينهم، فلم تمتد عيونهم إلى أبعد من هذه الحرار، ولم يطعموا من المجد بأكثر من أن يسحق بعضهم بعضاً، لينشئهم بالقرآن خلقاً آخر، ويسلمهم مفاتيح الأرض، ويضع في أيديهم القلم الذين يكتبون به أعظم تاريخ للبطولة والعلم والعدالة، فأطاعوا ولبوا، ثم مشوا إلى القادسية واليرموك، ثم أصبحوا سادة العالم، ورأيت الأنصار يستبقون إلى إنزاله صلى الله عليه وسلم والتشرف به ويصيحون به:

هلم يا رسول الله إلى القوة والمنعة، فيقول: خلوا سبيلها فإنها مأمورة، ويدعها تمشي وقد أرخى لها زمامها ما يحركها وهي تنظر يميناً وشمالاً، حتى أتت دار بني مالك النجار فبركت عند باب المسجد، ثم ثارت وبركت في مبركها الأول

<<  <  ج:
ص:  >  >>