فأرسلتها الفتاة ضحكة مجلجلة تجاوبت نفسي بأصدائها، فصار رنينها في قلبي لا في الفضاء. ولكنه قطع عليها الضحك بيمين أقسمها ألا تقوم معي، فوجمت وشعرت بقلبي يبكي لها، فقد كان من الواضح أنها تشتهي أن تركب هذا الترام، وقريبي يأباه عليها لأنه يؤثر الاحتشام والتلفع بالوقار، ثم قلت لها:(لا بأس. . لا بأس. . ما لا يدرك كله لا يترك كله. . انظري إلي وأنا أركب وسأترك مكانك إلى جانبي فيها خالياً، ففي وسعك أن تتصوري نفسك جالسة فيه كما سأفعل تماماً. . وإلى اللقاء القريب، وعسى أن تتمتعي بهذه اللعبة التي ألعبها إكراماً لسواد عينيك. . أن تراها زرقاوين؟؟ أرنيهما بالله قبل الركوب حتى لا يغلط خيالي. .)
فقال قريبي على سبيل التوديع:(اذهب، اذهب ولا تعد!)
فقلت:(يا شيخ حرام عليك! أنا شاب. .)
وركبت وحدي احتفاظاً لها بمكانها، وكان يكفي أن أصون لها مكانها في قلبي، ولكن الوفاء - صانك الله - داء مكتسب. وكان الميدان هادئاً، والراكبون يتحاورون، ويهرب بعضهم من بعض، ويتقون التصادم، وإن كان لا خوف منه، فجريت أنا على نقيض ذلك، وجعلت وكدي أن أصدم الذي يروقني، وكنت كلما أقبلت بسيارتي على أخرى لأصدمها أصيح براكبيها - وأنا أدفع بقبضة يدي في الهواء - بمُممم! فعلا الصخب - كما ينبغي أن يحدث - وكثر الضحك واللغط والصياح والصراخ، وانتهى الدور فنسيت صاحبتي التي تركتها مع قريبي، وشغلني ما أنا فيه عنها، وألهاني عن ذكراها كما هي عادتي، فإن اللحظة الحاضرة تذهلني عن كل ما مضى وكل ما عسى أن يجيء، ولعبت دوراً آخر، ثم غيره، وغيره، حتى أضناني الجهد المتواصل، وابتلت ثيابي من كثرة العرق المتصبب، فتذكرت قريبي وصديقته، وقلت أجلس معهما برهة أستريح فيها وعسى أن يهديه الله ويرقق قلبه القاسي، وعدت إلى حيث تركتهما فإذا بهما قد ذهبا. .
أي والله يا ناس!! خطفها قريبي - قريبي لا أحد الغرباء - وطار بها وخلفني أتلهف عليها واسخط عليه، وأذم الغدر والخيانة والأنانية والأثرة وألعن أمثاله من الأقرباء الذين يعمر قلوبهم الحسد والحقد لا الحب والإخلاص والتعاون على البر والتقوى