الأيام الخوالي حين قام رو في حقولهم يضرب لقاح الجمرة في بهائمهم في قرية بويي لوفرت. وقام عوناه مرتان وكايو فأشعلا مصباح الكحول وأسرعا إليه في لهفٍ وتأهب لإجابة الأمر تنفتح عنه شفتاه، ونظر كوخ إلى الأطباء وهم في حَيْصَ بيص لا يدرون ماذا يصنعون. ونظر إلى الوجوه الصغيرة وهي في زرقة الرصاص، وإلى الأيدي الرقيقة وهي تُهبّش في ألحفة الصوف، وإلى الأجسام وهي تتلوّى في الفراش تطلب أنفاساً قليلة من ذلك الهواء الغالي فلا تكاد تجدها. ثم نظر إلى محاقنه ممعناً وسأل نفسه: أحقاً في هذا المصل خلاص هذه الأرواح؟ فما أسرع ما انشطرت نفسه شطرين عند هذا السؤال، فكان منها نفسان: النفس الأولى نفس الإنسان الحنّان، والنفس الأخرى نفس العالم البحاث
قالت الأولى تجيبه بقوة:(نعم، نعم فيه خلاصها)
وقالت الثانية في همس وخفوت:(لا أدري، والحكم للتجربة، فهيّا بنا إليها)
قالت النفس الحنون، وقال معها الآباء القانطون وكلهم يتوسلون ويرجون:(لا تفعل! لا تفعل! فإن التجربة تقضي بإعطاء المصل لبعض الأطفال وحبسه عن بعضهم، وهذا في شِرعة القلب حرام)
قالت النفس الباحثة:(نعم إنه عمل غير هين وقساوة تتلذع منها القلوب، ولكن ما الذي أنا صانعته؟! إن هذا المصل شفى الأرانب فما الذي يدريني أنه يشفي الأطفال والإنسان؟ لا بد إذن من العلم، لا بد من كشف الحقيقة، والحقيقة لا تكشف إلا إذا نحن حقنا به نصف الأطفال المرضى وأعفينا النصف الآخر، ثم قارنا عدد من يموت في النصف الأول بعدد من يموت في النصف الثاني؛ بهذا، وبهذا وحده، نستطيع أن نعلم الأثر الحق الذي للمصل في شفاء هذا الداء)
قالت النفس الحنون:(ولكن هبْ أنك وجدت المصل يشفي، فانظر ما تكون مسؤوليتك عن مئات الأطفال الذين يموتون لأنك حبست عنهم هذا المصل، هذا الترياق)
إنه تخيير مؤلم لاشك بين خُطّتين صعبتين. على أن رو ذا العقل الصرف فاتته حجة ما كان أولاه بإيرادها في هذه المناظرة بينه وبين رو ذو العاطفة الصرف؛ لقد كان في استطاعته أن يقول: (إننا إذا لم نتبع طريقة العلم، طريقة التجربة، إذاً لأنخدع الناس فظنوا أنهم وقعوا من هذا المصل على علاج كامل للدفتريا، وإذن لكفّ البُحّاث عن طلب علاج