الموت أخيرا كما ضن أولا، وحتى ترتعش اليد رعشة الموت، فيتدحرج الخطاب، وينسدل بين البصر وبينه حجاب، ويلفظ القارئ نفسه الأخير، ويكون آخر ما قبضت عليه يمينه كتاب ابنه المحبوب، وآخر ما فاه به اسم ابنه المحبوب، وآخر ما انطبع في مخيلته صورة ابنه المحبوب
هاهو ذا الملك مسجى على سرير من ذهب لا يرد إليه الحياة، مغطى بأكفان من الحرير لا تخفف من خشونة الموت شيئاً؛ أمامه مباخر من عنبر لا تنفس من سكرة الردى! النعش هو النعش، حملته الأعناق، أم جرته الخيول العتاق؛ والقبر هو القبر من طين وماء، أو من مرمر ورخام، في صحراء جرداء، أو في جوف هرم من الأهرام. أطلقوا المدافع، ونظموا المواكب، وأعلنوا الحداد، ونكسوا الأعلام، فلن تغيروا من حقيقة الموت شيئا. الموت هو هو، ديموقراطي لا يميز بين الملوك والسوقة، ولا يدين بالفروق بين الطبقات
مات الملك فورث ولي عهده تاجا وصولجانا، ونهراً عذبا، ومملكة فيحاء، وأمة مطيعة مخلصة، ولكنه بجانب ذلك فقد عطف الأب البار، وحنان الوالد الرحيم؛ فليت شعري أخاسرة تلك الصفقة أم رابحة؟ وأية الكفتين هي الراجحة؟، لست أدري، ولكن الذي لاشك فيه أن كل شيء يمضي ويعود، حتى العروش والتيجان، ولكن الميت لا يعود، وأن الملك الجديد لو بذل عرشه في سبيل نظرة من أبيه أو كلمة يسمعها من فيه ما سمح الموت، لأن الموت ديموقراطي لا يميز بين الملوك والسوقة ولا يدين بالفروق بين الطبقات
هكذا تتساوى الرؤوس عند الموت بالرؤوس، أو تتساوى الرؤوس بالأذناب، كما تساوت الرؤوس بالرؤوس، أو الرؤوس بالأذناب عند انحدارها من الأصلاب، الكل من التراب، والكل إلى التراب. وما لي لا أذهب إلى أبعد من ذلك، فأزعم لك أن الناس كما يستوون في طرفي الحياة، يستوون في الحياة؛ وأزعم أن في الحياة نصيباً مشتركا من السعادة، وآخر من الشقاء، كل الناس فيهما سواء. وما دام كل إنسان لا يقنع بما هو فيه، بل يمتد نظره إلى أبعد منه، ويتمنى على دهره الأماني، فيبسط له الدهر إحدى يديه، ويقبض الأخرى، فلا يقنع الإنسان عند البسط، ولا ييأس عند القبض، فهو أبدا آمل، كادح، مخفق، ناجح؛ أقول مادام أنه لا سبيل إلى الكمال المطلق، إما لأنه غير موجود، أو لاستحالة الوصول إليه، فالناس في الحقيقة سواء، وما اختلافهم في الجاه والمال والمراكز الاجتماعية إلا أمور