أدوات الحكم مهما اختلفت ألوانه هي - أ - التشريع - ب - القضاء - ج - الإدارة
أ - والمثل الأعلى للتشريع، في رأيي، هو أن يكون أقرب ما يمكن إلى التعبير عن الإرادة المشتركة. وأعني بالإرادة المشتركة في جماعة ما ملتقى الإرادات الجزئية أو الإرادات الفردية نتيجة تبادل الآراء وتعديل بعضها بعضاً. وكلما كانت حرية الرأي مكفولة كبر مجال تمحيص الآراء وقربت إرادة الدولة، مجمع الإرادات، من إرادة الجماعة وصدق تعبيرها عنها. وإذا كان القانون، وهو إرادة الدولة أساسه هذا، فإنه يسهل تطبيقه كما يسهل تعديله بما يساير تطور الجماعة، لأنه يعبر تعبيراً صادقاً - بقدر ما تقبله طبيعة الإنسان - عن إرادة المجموع
هذا النحو في التفكير يقودنا إلى تقرير أن الحكم النيابي أقرب أشكال الحكومات المعروفة إلى التعبير عن إرادة الجماعة أصدق تعبير ممكن. وهنا لابد لي من الإشارة إلى اعتراضين:
قد يتساءل البعض: كيف السبيل إلى سيادة الحكم النيابي في الجماعات المتأخرة ما دام القانون هو إرادة الدولة، وما دام مثله الأعلى هو أن يكون نتيجة ملتقى الإرادات الجزئية، وكانت الأغلبية جاهلة؟
وجوابي على هذا أن هنالك رغبة مشتركة بين مختلف الطبقات، أو إرادة مشتركة مهما بعدت النسبة بين درجات التفكير. وأعني بهذه الإرادة المشتركة إرادة توفير أسباب العيش والأمن على النفس والمال. فإذا عملت على ترقية مدارك الفلاح، ويسرت له سبيل الري والصرف، وأمنته على نفسه وعلى ماله، فإنك إنما تحقق رغبته أو تنقذ إرادته. والشرائع التي تؤدى إلى هذا تعبر عن إرادته. وبالعكس إذا صدر قانون بإقامة دور فخمة للتمثيل وقاعات للتصوير في قلب الريف مع شدة حاجته للمستشفيات العامة والمدارس العامة، فإنك لا تعبر عن رأي سكان القرى بل تخالف إرادتهم. ويقال مثل هذا عند جميع طبقات الأمة. فإذا أبدى نائب رأياً عن جماعة فإنه، طبقاً لما تقدم، لا تناقض بين فكرة الإرادات الجزئية وبين الحكم النيابي في الجماعات المتأخرة، ولو لم تظهر الإرادة الجزئية مستقلة منفصلة. وبتقابل إرادات الطبقات المختلفة يعدل بعضها بعضاً حتى تلتقي في نقطة تحقق الإرادة المشتركة بالقدر العملي اللازم لسير الجماعة إلى الأمام