من ذلك ترى أن ترجمة الإنجيل من اللاتينية أحدثت في الحضارة الأوربية بعض الأثر الذي أحدثه القرآن الكريم في تكوين حضارة إسلامية راقية مؤسسة على قواعد ونظم ثابتة. أضف إلى ذلك أن اختراع الطباعة جاء في نفس الوقت الذي سارعت فيه الأمم والشعوب الجرمانية لتلم شعثها. فأخضعت الطباعة للغة والفكر والدين، وازدهر الأدب الجرماني وانتشرت ضروب الثقافات، وبفضل ترجمة الإنجيل اندثرت اللغات واللهجات، ومحيت الفوارق السياسية التي كانت إحدى نتائج الجهل المؤدي إلى العبودية
في ذلك الوقت كانت طائفة صغيرة من العلماء في الشرق الإسلامي، قد احتكرت علوم القرآن وتفسيره، وأصبحت اللغة الفصحى على وشك التدهور والانهيار، وتفشت الأمية والجهل إلى حد مخيف، وأصبح المسلمون الذين كانوا قادة الأمة في العلوم والآداب في حالة تأخر وانحطاط بالنسبة لأسلافهم. أما الكتاب الكريم، ينبوع الحضارة الإسلامية الزاهرة، فكان غير مفهوم لأكثر من الناس
في هذه العصور المظلمة كانت طائفة العلماء في عزلة تامة عن الشعب، يحتكرون القرآن في صدورهم، فانتشرت الجهالة وعمت الفوضى، على أنه توفيق من الله، كان لا يزال ألوف من المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها يحفظون القرآن وإن لم يفقهوا معانيه. فالإسلام في حد ذاته هو التشبع بالمبادئ الروحية السامية المركزة على طهارة النفس ونقاوتها مما يشوبها. فهل يمكننا في هذه الحالة أن نعترف بأن الإلهام السماوي، مهما بلغ من التقديس، يؤثر في نفوس من لا يفهمون معناه؟ إن الإسلام ليس سحراً ولا طلسماً، ولكنه دين الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وإذا اعتقدنا بأنه صالح لكل زمان ومكان، فيجب علينا إذن أن نعمل جهدنا لشرحه وترجمة معناه وجعله في أيدي ألوف الناس الذين يتحرقون شوقاً للدخول فيه أفواجاً وأفواجاً
نحن لا نحارب في هذا العصر مثلا بنفس الأسلحة التي كان آباؤنا يلجئون إليها للدفاع عن أنفسهم - من أقواس ونبال ورماح - بل نقاتل بالدبابات والطيارات وسائر الآلات الحديثة، كذلك يجب علينا في هذا العصر ألا ندخر وسعاً في الالتجاء إلى كافة الوسائل الأدبية والروحية لإظهار فضائل الدين الحنيف والتبشير به في أرجاء الأرض