لا! إنك لم تنهزم ولم تغلب، ولكن غلبت المبادئ يا أيها الإمبراطور العظيم، وانهزمت الفضيلة، وديس الحق، وأفلست مدنية القرن العشرين!
إنك لم تنهزم، وإن الطليان لم يمتلكوا أرض الحبشة، لأن العصر عصر الأمم لا عصر الملوك، وقد استسلمت أنت مرغماً للقضاء، ولكن استسلامك للقضاء، وتركك أرضك للأعداء، لا يسلم أمتك إلى الفناء. إن هذا الشعب الذي عاش حراً عشرين قرناً، لا يستسيغ الاستعباد في عشرين شهراً، ولا في عشرين سنة، وإنه سيجاهد ويناضل ويقاوم ويقاتل، ما بقي فيه شخص واحد يمشي على أرض الحبشة. ويسمع صراخ الأجداد من أعماق الثرى. . . وأعالي السماء. . . تدعوه إلى إنقاذ رفاتهم من نعل الأجنبي الغاصب أن يطأها ويعبث بها؛ وأن الغالبين قد يملكون اليوم الدساكر والقرى، وينشئون القلاع والحصون، ولكنهم لن يمتلكوا القلوب، ولن ينشئوا فيها الحب، وهاهي ذي طرابلس، بل هذه هي الأندلس:
ألم تسمع أيها الإمبراطور باسم الملك الطريد أبي عبد الله الصغير، ذلك الذي كان ملك الأندلس، وسيد غرناطة، وصاحب الحمراء، سليل الملوك الذين جعلوا الأندلس جنة الدنيا، ومدرسة العالم، ومشرق أنوار الحضارة؟ لقد خدعوه كما خدعوك، فأعطوه العهود والمواثيق، وأقسم عليها ملوكهم وسادتهم، وشهد بها أعاظمهم وأشرافهم، وصدق عليها البابا أمين دينهم وسيدهم على أن يدعوا له قصوره ودوره وأمواله وجواهره، وحكمه وسيادته، وعلى أن يتركوا قومه أحراراً في عبادتهم وبيوتهم ومعاملاتهم وتجارتهم، وأن يكفلوا لهم راحتهم وهناءتهم وأموالهم وأمتعتهم؛ فلما ملكوا أخرجوا الملك من أرضه وبلاده، فرأى لآخر مرة شرف الحمراء، وجنان العريف، وجبل شلير، ثم مضى تتغلغل به السفينة في أمواج البحر، وصورة الأندلس تنأى وتبتعد، حتى توارت وراء الأفق، فخرجت من حيز الواقع لتدخل في حيز الذكرى، ولتكون أمنية في نفس كل مسلم، يوصي بها السلف الخلف، ويأخذ منه العهد على استرجاع (الفردوس الإسلامي المفقود)، وعمدوا إلى مسلمي الأندلس، فأخذوا مساجدهم، وأحرقوا مكاتبهم، وفيها ثمرة العقول البشرية منذ مطلع التاريخ إلى ذلك العهد، ليتلهوا بلهيبها في ليالي انتصارهم، وأنشئوا لهم محاكم التفتيش لتدخلهم في النصرانية قسراً، وتحرقهم أحياء، وتعذبهم عذاباً لا يتخيله إنسان. . .