وقفت قبالة عربة القطار المقل لصديقتي أنيسة عبر حدود مصر وقفة سهوم وفتور، بل وقفة الكلف الولوع المكتوي الفؤاد، أخاف الفراق وأفرق منه لأني سأصبح مضطرب الخيال، فريسة الوحشة، يتيم الروح. ولما هم القطار متثاقلاً في حركته، كان الألم المكبوت يوشك على الانفجار، ولكنه تحول دموعاً انهمرت سخينة على يد صديقتي وقد قبلتها لأول وهلة
رفعت ذراعي ولوحت بها في الفضاء، غير أن الصور اختلطت علي وغاب القطار
من لي بمن يعبر عما كان يتجاوب في صدرها من حنان وحب؟ من لي بمن يعبر عن نظراتها هل كان يغشاها طيف حزين، أو هي فاترة ساهمة؟ من لي بأفاك يضحك مني فأصدق تقوله إنها استسلمت للأسى والمرارة كما استسلمت أنا، وأن أحلام سعادتها قد انتعشت من جديد كما انتعشت أحلام سعادتي بأمل ورجاء؟!
لا. . . . لم يعد بي حاجة إلى متقوّل يضحك مني إرضاء لضعفي الطارئ المستحب، لم تعد لي بالاستهواء الذاتي فائدة لأني قدرت، بعد انقضاء أيام من الألم المضني، أن البرزخ الفاصل بيننا متعذر العبور، ولكن شيئاً جديداً أعاد إليّ رجائي، أحيا فيّ أملي، لقد أخذت كتب صديقتي تصلني تباعاً كل أسبوع، في كل شهر، فيها التوضيح والتبسيط لكل خلجات عواطف المرأة التي تعرف كيف تعبر عنها تعبيراً صحيحاً في حالة الانغماس فيها أو في حالة القدرة على وصفها بالكتابة، أما الفصول القيمة التي كانت تنشرها في المجلة الأمريكية ففيها من التفصيل الدقيق لذاتية الأديب الفنان الذي يتخذ من المشاهدات الواقعية والذاتية ومن الخلجات العاطفية أداة للخلق والابتداع
صارت خطاباتها على مر السنين مصدر وحي لي فياض بخصائص الحياة وعناصر الرغبة فيها، كنت أستلهم سطورها أدق المعاني وأبرع التصورات، وأشعر بسحرها يغشاني فتشرق نفسي لأنه كان كنغمات بعيدة عميقة لصوت حالم طروب حملها الأثير من جوف وادي الظلام!! إلا أنه حدث ما لم أكن أتوقعه، حدث أن جاءني كتاب منها تقول فيه أن أكف عن مراسلتها كما أنها ستنقطع عنها ريثما تعالج من مرض ألم بها في إحدى المصحات وتدعوني إلى الصلاة لأجلها، أو أبكيها بدمعة واحدة إذا استنزف الداء حيويتها!!
عام طويل أجوف كأنه دهر من العدم حاق بي من كل جانب كنت فيه كالمشلول خولط في