وأمامنا التأريخ الأوربي الحديث، يعيد نفسه دائماً؛ وفي رأينا أنه سيعيد نفسه في القريب العاجل مرة أخرى
ذلك أن أوربا، وإنكلترا بنوع خاص، لم تتسامح قط في أمر العسكريات القوة المعتدية؛ ولم تنهض في أوربا أية عسكرية قوية طامحة، خلال القرون الأربعة الأخيرة، إلا اجتمعت أوربا على مقاومتها وسحقها
وقد كانت العسكرية البروسية آخر عسكرية من هذا النوع، لقيت مصرعها في الحرب الكبرى
ومنذ القرن السادس عشر يعيد التأريخ الأوربي الحديث نفسه في هذا الميدان بصورة واضحة؛ ففي القرنين السادس عشر والسابع عشر، كانت العسكرية التركية تجول ظافرة في جنوب شرقي أوربا وأواسطها حتى حدود بولونيا، وقد اجتاحت حوض الدانوب حتى أسوار فينا، وحاصرت العاصمة النمسوية مرتين، فما زالت أوربا حتى حطمت هذه النهضة العسكرية الخطرة في البر والبحر، وردتها إلى ما وراء الدانوب، وحرمتها من كل ثمار ظفرها؛ وفي القرن السابع عشر، قام لويس الرابع عشر يهدد سلام أوربا الغربية بأطماعه ومغامراته العسكرية، فما زالت الدول الخصيمة وفي مقدمتها إنكلترا والنمسا حتى سحقت قواه العسكرية، بعد سلسلة من الحروب الطاحنة؛ وفي أوائل القرن الثامن عشر كان كارل الثاني عشر ملك السويد يجتاح بجيوشه ضفاف البلطيق وغرب روسيا، ويهد التوازن الأوربي في شرق أوربا، فما زالت روسيا حتى سحقت مشاريعه وقواه
وربما كان أعظم مثل في التأريخ الحديث لذلك الصراع الخالد في سبيل التوازن الأوربي، وسحق العسكريات الجامحة، مثل نابليون بونابرت؛ فقد ظل هذا الجندي العظيم الطامح يقود جيوشه الظافرة في جنبات أوربا مدى عشرين عاماً، ويبسط سيادته على معظم الدول الغربية والوسطى، ويعمل بكل ما وسع لتحطيم سيادة إنكلترا في البحر الأبيض؛ ولكن إنكلترا لبثت تطاوله وتصارعه وتؤلب عليه الدول الخصيمة، حتى انتهت بسحقه وتحطيم ذلك الطغيان العسكري الشامل الذي بسطته الإمبراطورية على أوربا زهاء عشرة أعوام
وقد رأينا كيف اجتمعت أوربا الغربية، وفي مقدمتها إنكلترا، أثناء الحرب الكبرى، لتحطيم العسكرية البروسية، التي وثبت تهدد العالم بأطماعها الجائشة في السيادة والإستعمار،