ألفاظه تمسح ببياضها هذا السواد الماثل أمامه:(لقد تخليت عني في وقت أنا أحوج فيه إليك، وقد كان بيننا ما كان. تخليت عني ليعبث أهلي - بما لهم علي من حق - في مستقبلي. لقد أرغموني حين ردوك)
ولما أرتد الأب خائباً، وجد الابن قد أكلته الخيبة والتهمه اليأس، فعاد يهمس بينه وبين نفسه (ويلي! لقد جنيت!) ثم ابتدأ يلتمس لولده العزاء مما جنى عليه، فقدر له أن يمضي أياماً على شاطئ البحر، عند الربيع الأزرق. هناك حيث يخلع الإنسان همومه إذ يخلع ملابسه، ويتحلل من أثقال المدينة وتقاليد الناس حين يرى نفسه كآدم وحواء قبل اتخاذ الثياب. وكان الفتى واسع الخيال دقيق الحس، فآلمه أن يرى هذا الناس قد اجتمعوا ليقتسموا الصحة والعافية، واللذة والسعادة، وهو وحده يعيش في جو بعيد عن كل ذلك، هو جو قلبه، وانصرم الصيف، وما أفاد إلا هماً على هم، ووحشة كانت في قلبه فعادت في حسه وفي نفسه
وجلس الابن يقرأ - ذات ليلة - كتاباً في تأريخ قدماء المصريين والأب ينصت، وهو يتبين في صوته رنين الأسى والحزن. فقال: إن لنا في الشتاء لرحلة كما لنا في الصيف رحلة.
زيارة آثار أجدادنا القدماء. وطرب الشباب لهذه الفكرة الطارئة
وطوّفا ما طوفا والفتى في نهاره رفيق أبيه، وفي الليل صديق همومه
وجلس الفتى إلى نضد، وقد مضى الليل إلا أقله يكتب إلى التي أحبها:(ذهب عقلي واستقر هواك. وهأنذا أطوف في بلاد وقرى لم أنزل بها من قبل، ولم يزرها أبي من قبل أيضاً. يظن أبي أنني أفرج عن نفسي، وأراني شريداً لأنني أرغم على ذلك إرغاماً. يؤمر ليطيع كالإنسان الصناعي لا يدري ماذا يقال، ولا ماذا يُفعل؛ وهم يسخرون من الإنسانية إذ يسمونه الإنسان. أبي يرى في كل ذلك لذة، أما أنا فلا أرى هنا ما يلذني لأني بعيد عنك. والآن وقد بلغنا أسوان بقي علي أن أصف لك الخزان العظيم الذي يترك لأرض مصر جميعها فضلة ما يمسك. إنه في رأسي الآن يجيش ويضطرب، وغداً كيف أراه أمام عيني؟ سأذكرك هناك، يا فتاتي، وأذكرك. . .)
وعند انبثاق الفجر انفلت من الفندق ليضع بعض قلبه في صندوق البريد