وتوزعه العشق والكبرياء، وتقاسمته عزة الرجل ورقة العاشق. . . وغدا على مجلس الأمير ينشده، فإذا الحب المستور يستعلن، وإذا النفس الثائرة تفور، وإذا (أنت) على لسان الشاعر المادح تعود (أنا)، وإذا هو يفتخر وكان يريد أن يمدح. .
وفهم سيف الدولة ما يعني، وفهم جلساء سيف الدولة؛ ولكن حرمات الأمير الكريم ردت الكلام إلى الأفواه، فما استطاع منهم أحد أن يقول: إن في بيت الأمير قصة غرام
ولكن (أبا العشائر الحمداني) لم يسكت، فأرسل غلمانه يأخذون على العاشق الجريء طريقه. . ونجا الشاعر من كيد كان يراد، ولكنه لم ينتقم، وشفع للعدو عند الشاعر أنه منتسب إلى الحبيب.
واستيأس المتنبي ونفذ صبره، فأزمع الرحلة إلى بعيد لعله أن ينسى. . .
وفارق سيف الدولة متكبراً عزيزاً أبياً، ولكنه خلف قلبه وراءه، وخلف الأمل في الملك والجاه والسعادة، وأيقظته الحقيقة بعد حُلم دام تسع سنين؛ ومضى على غير وجهٍ وقلبُه يتلفت إلى تلك التي خلفها وراءه؛ وعادت تتقاذفه البلاد، وتتراماه القفار، يساوم للمجد، ويجاهد للأمارة، لعله يعود إلى من يحب وعلى رأسه تاج. . . .!
ومضت سنوات وقلب العاشق ما ينفك ينبض، وما يبرح يذكر هواه ومن أحب؛ فما ينشد شعراً إلا وفيه لوعة من أثر الفراق، أو حسرة من وحشة الحبيب النائي. . .!
وا أسفا لمشتاقٍ بلا أمل. . . تمضي لياليه بغير جديد، وتنقضي أيامه على غير ميعاد، مغيظاً على بعده (غيظ الأسير على القد. . .!)
ليت شعري. أكان هو وحده المعذب الملتاع بهذا الفراق الذي أختاره فراراً بكبريائه. . .؟
ودخل الكوفة يطلب العزاء في الوطن الذي حرم دخوله منذ الشباب، تتجاذبه الكبرياء والهوى، وتتدافعه الأماني والذكريات، ويسترجع الماضي ويهتف بالغد. . . ولكن ما استقرت به النوى حتى جاءه النبأ. . . ماتت خولة. . .!
وتهاوت آمال الشاعر أملاً أملاً فما عاد يستمسك، ونالت منه الحسرة والتفجيع فانصدعت كبده. وسكت أمير شعراء العربية سنتين لا ينشد، والشعر يترقرق دموعاً في عينيه ويتصعد زفرات. . .!
يا عجبا! إن النفس لا تجيش بأبلغ الشعر إلا حين يتأبى البيان على اللسان. . .!