وغضب الأستاذ (م) وقال: ويحك أهذا من أدبكم الجديد الذي تأدبتم به على أساتذة منهم الفجرة الذين يكذبون الأنبياء ولا يؤمنون إلا بدين الغريزة ويسوغونكم مذاهب الحمير والبغال في حرية الدم. . .؟ أما إني لا أعلم أنكم نشأتم على حرية الرأي ولكن الكلمة بين اثنين لا تكون حرةً كل الحرية إلا وهي أحياناً سفيهة كل السفاهة كهذه القولة التي نطقت بها.
لقد كان الناس في زمننا الماضي أناساً على حدة، وكانت الآداب حالاتٍ عقليةً ثابتةً لا تتغير ولا يجوز أن تتغير، وكان الأستاذ الكافر بينه وبين نفسه لا يكون مع تلاميذه إلا كالمومس تجهد في أن تربي بنتها على غير طريقتها.
قال الحدث: فلججت وذهبت أعتذر، ولكن العجوز (ن) قطع علي وأنشأ يقول وقد انفجر غيظه: لقد تمت في هؤلاء صنعةُ حرية الفكر كما تمت من قبل في ذلك الواعظ المعلم القديم الذي حدثوا عنه أنه كان يقص على الناس في المسجد كل أربعاء فيعلمهم أمور دينهم ويعظهم ويحذرهم ويذكرهم الله وجنته وناره؛ قالوا فاحتبس عليهم في بعض الأيام وطال انتظارهم له، فبينما هم كذلك إذ جاءهم رسول فقال: يقول لكم أبو كعب: انصرفوا فأني قد أصبحت مخموراً. . . . . .
هذا القاص المخمور هو عند هؤلاء السخفاء إمام في مذهب حرية الفكر، وفضيلته عندهم إنه صريح غير منافق. . . وكان يكون هذا قولاً في إمام المسجد لولا أنه إمام المسجد؛ غير أن حرية الفكر تبنى دائماً في كل ما تبنى على غير الأصل، وعندها أن المنطق الذي موضوعه ما يجب، ليس بالمنطق الصحيح إذ لا يجب شيء مادام مذهبها الإطلاق والحرية.
كل مفتون من هؤلاء يتوهم أن العالم لا بد أن يمر من تفكيره كما مر من إرادة الخالق، وأنه لا بد له أن يحكم على الأشياء ولو بكلمة سخيفة تجعله يحكم، ولا بد أن يقول (كن) وإن لم يكن إلا جهله. ومذهبه الأخلاقي: اطلب أنت القوة للمجموع أما أنا فألتمس لنفسي المنفعة واللذة. ويحسبون أنهم يحملون المجتمع؛ فأنهم ليحملونه ولكن على طريق البراغيث في جناح النسر.