بالشوق والحزن والبغض والحب يغمر فؤادي؛ وكثيراً ما ذهلت عن نفسي ساعات طويلة، فإذا تنبهت رأيتني أطوف بالحمراء وأعاتبها وأقول لها:
أيتها الحمراء. . . أيتها الحبيبة الهاجرة، أنسيت بناتك وأصحابك اللذين غذوك بأرواحهم ومهجهم، وسقوك دماءهم ودموعهم، فتجاهلت عهدهم وأنكرت ودهم. أنسيت الملوك الصيد الذين كانوا يجولون في أبهائك، ويتكئون على أساطينك، ويفيضون عليك ما شئت من المجد والجلال والأبهة والجمال، أولئك الأعزة الكرام الذين إن قالوا أصغت الدنيا، وأن أمروا لبى الدهر. أألفت النواقيس بعد الآذان، أرضيت بعد الأئمة بالرهبان!
ثم أخاف أن يسمعني بعض جواسيس الديوان، فأسرع الكرة إلى الدار لأحفظ درس العربية الذي كان يلقيه علي أبي، وكأني أراه الآن يأمرني أن أكتب له الحرف الأعجمي فيكتب لي حذاءه الحرف العربي، ويقول لي: هذه حروفنا، ويعلمني النطق بها ورسمها ثم يلقي عليّ درس الدين، ويعلمني الوضوء والصلاة لأقوم وراءه وهو يصلي خفية في هذه الغرفة الرهيبة
وكان الخوف من أن أزل فأفشي السر، لا يفارقه أبداً، وكان يمتحنني فيدس أمي إلي فتسألني:
- ماذا يعلمك أبوك؟
- فأقول: لا شيء
- فتقول: إن عندي نبا مما يعلمك، فلا تكتمه عني
- فأقول: إنه لا يعلمني شيئاً
حتى أتقنت العربية، وفهمت القرأن، وعرفت قواعد الدين، فعرفني بأخ له في الله، فكنا نجتمع نحن الثلاثة على عبادتنا وقرآننا واشتدت بعد ذلك قسوة ديوان التفتيش، وزاد في تنكيله بالبقية من العرب، فلم يكن يمضي يوم لا نرى فيه عشرين أو ثلاثين مصلوباً، أو محرقاً بالنار حياً؛ ولا يمضي يوم لا نسمع فيه بالمئات يعذبون أشد العذاب وأفظعه، فتقلع أظافرهم وهم يرون ذلك بأعينهم، ويسقون الماء حتى تنقطع أنفاسهم، وتكوى أرجلهم وجنوبهم بالنار، وتقطع أصابعهم وتشوى وتوضع في أفواههم ويجلدون حتى يتناثر لحمهم. . .