يقول، لمزةً نبهت غافل أوديب؛ ذلك أنه عيره بأصله المجهول. . .
(أصلي المجهول؟ ماذا يقول هذا المعتوه؟ مجهول كيف؟ أولست ابن بوليبوس ملك كورنثه؟ أوليست هذه الملكة الجليلة أمي؟ بلى؟! لقد كنت أحس دائماً أنني لا استنشق هواء الأبوة في هذا القصر!. . . ويلاه! السر العجيب. . . السر العجيب. . .)
وأنطلق المسكين إلى مخدعه يبكي وينتحب. . . وانطلقت الملكة في إثره ترفه عنه وتواسيه، وتحلف له بالأيمان المغلظة أنه أبنها. . . وأنها أمه. . . ولكن. . . هيهات! فلم يكن أوديب من البله والغفلة بحيث ينخدع بهذه الأيمان التي لا تصدر عن إخلاص الأم الحقيقة، ولا يشف عن صدقها جب الأمهات الذي يدل على نفسه. . .
(لا! بل أنا أوديب التاعس! أنا أوديب المسكين الذي لا يعرف له أماً، ولا يدري له أباً. . . الوداع أيها القيصر المملوء بالخداع. . . الوداع أيها الملك الذي أكرمتني كأنني ابنك. . . اغفري لي أيتها الملكة التي أحبتني كأنني أبنها. . . سأنطلق. . . سأهيم على وجهي في القفار والفلوات. . . لا بد أن أعرف. . . لا بد أن أعرف من أنا. . . من أبي. . . من أمي. . . الوداع. . . الوداع. . .)
وأنطلق المسكين لا يلوي على شيء. . . غير مزود من هذا الملك العريض والسلطان الواسع إلا بسيفه. . . حتى إذا بلغ أفق طيبة، وقف على ربوة عالية يلقي على ملاعب الصبي ومراتع الشباب نظرة باكية. . . ثم مضى. . .
- ٨ -
كانت الشكوك القاتلة تعصف بنفس أوديب، وكان يحاول أن ينسى كلمة الشاب المفتون الذي لمزه. . . ولكن عبثاً حاول ذلك. . . وكان يجهد فيما بينه وبين نفسه أن يفسر تلك النظرات الصارمة التي تبادلها ضيوف القصر بعد أن قال الشاب قالته، ولكنها كانت تعتاص بالمعاني السود في نفسه، وتثير في أعماقه ألواناً من الريب تغلي بدمه في رأسه. . .
وذكر أمه - أو الملكة - وهي تحاول أن تتغفله، وذكر سمات الخداع في ألفاظها، فوقر في نفسه أنه لا بد ابن أبوين آخرين غير بوليبوس وزوجه.
(إذن. . . إلى دلفي! لأذهب إلى دلفي! لأستوح كهنة أبوللو، فعندهم الخبر اليقين)