لإقامة هذا الصرح القومي الذي تحلم به منذ الآماد، فتدفقت الهجرة اليهودية إلى فلسطين حتى أصبح عدد اليهود فبها زهاء نصف مليون، وأقيمت المستعمرات والمشاريع اليهودية الضخمة في جميع أنحاء البلاد، وأنشئت مدينة تل أبيب لتكون عاصمة الوطن الجديد، وأقيمة جامعة عبرية لتعمل لأحياء التراث اليهودي الروحي والفكري؛ وعلى الجملة فقد استطاعت اليهودية أن تحقق في فلسطين كثيراً من المظاهر المادية والاقتصادية والاجتماعية للوطن القومي اليهودي.
ولكن هذه المظاهر على ضخامتها وقوتها تبدو اليوم ضئيلة واهنة أمام ثورة الشعب الذي يقام هذا الوطن في أرضه، وعلى أنقاض حقوقه وموارده؛ فاليوم يهاجم الوطن اليهودي، ويطعن من كل صوب، وتقوض مستعمراته ومنشآته، وتعطل جميع مرافقه ومصالحه، وتشل جميع حركاته ومعاملاته، ويكاد يغدو في حالة حصار مطبق؛ كل ذلك تحت بصر القوى الاستعمارية التي هرعت إلى فلسطين لحمايته. وقد شعرت الصهيونية من قبل غير مرة بخطر الفورات القومية الفلسطينية على صرحها، ولكنها لم تكن تتصور أن الخطر قد يبلغ هذا المدى من الروعة، أو أن هذه الأمة العربية الصغيرة يمكن أن تضطلع بمثل هذا الكفاح الشاق الجلد؛ وإذا لم يكن ثمة ريب في أن القوى الاستعمارية الغاشمة ستتغلب في النهاية على الكفاح القومي الباسل، فانه لا ريب أيضاً في الوطن القومي اليهودي سيخرج من المعركة مثخناً بالجراح، وقد وهنت قواه المادية والمعنوية، وزادت شكوك الصهيونية وهواجسها نحو المستقبل الغامض.
والواقع أن فكرة الوطن القومي اليهودي لم تكن بنت القرن التاسع عشر فقط، ولكنها ترجع إلى أقدم العصور؛ فمذ حطمت مملكة أورشليم اليهودية منذ نحو ألفي عام، وشتت اليهود في أنحاء الأرض، تحلم اليهودية بالعود إلى أرض إسرائيل؛ ومع أن الجماعات اليهودية قد استقرت في الأراضي التي استوطنتها مدى القرون، غير أنها لم تندمج قط في الشعوب التي عاشت بين ظهرانيها، ولبثت تكون دائماً مجتمعات مستقلة. وترجع اليهودية تلك الظاهرة إلى نظم الاضطهاد والعزلة التي كانت تفرض على اليهود، وحرمانهم من الحقوق السياسية والمدنية طوال القرون، حتى أنهم كانوا يرغمون على السكن والاحتشاد في أماكن خاصة تسمى (الجيتوّ). ولكن الحقيقة أن اليهودية هي التي اختارت لنفسها هذه العزلة،