وهذا الاستقلال الخالد عند الشعوب التي استقرت فيها. ذلك أن اليهودية كانت وما زالت تعتبر دائماً أن الدين هو جامعة الجنس بين اليهود، وأن اليهودية هي ملاذ الشعب اليهودي أينما حل، وبعبارة أخرى إن الدين والجنسية بالنسبة لليهود هما وحدة لا تتجزأ. وهذا هو الخطأ الخالد الذي وقعت فيه اليهودية، والذي أثار عليها في كل العصور ريب الشعوب وحقدها، والذي هو في الواقع أكبر عامل في تحريك الخصومة السامية. وهذا هو الأساس الخاطئ الذي تبنى عليه فكرة الوطن القومي الذي يجتمع فيه اليهود من جميع الجنسيات واللغات.
وقد فطن إلى هذا الخطأ الذي هو عنوان التعصب الخالد بعض أقطاب اليهودية، وحاولوا أن يدعوا إلى فصل الدين عن الجنسية، وإلى تشبه اليهود بسائر الشعوب في اعتبار الدين مسألة روحية محضة لا علاقة لها بالجنسية؛ دعا إلى ذلك الفيلسوف الألماني اليهودي موسى مندلزون في القرن الثامن عشر، ورأي أن تتخذ القومية اليهودية صبغة محلية، فينعدو اليهود من أبناء البلد الذي استوطنوه مع احتفاظهم بتراثهم الروحي؛ وآزر مندلزون في هذه الدعوة بعض أكابر المفكرين الألمان من غير اليهود مثل الكاتب الشهير لسنج وغيره؛ ولكن هذه القومية المعتدلة التي أملى بها جو التسامح الذي نعمت به اليهودية يومئذ لم تلق كبير تأييد، ولم يطل أمدها، واستمرت الفكرة الدينية القديمة على قوتها وحدتها.
والوطن القومي اليهودي يقوم كما قدمنا على نفس هذا الأساس، أي على جامعة الدين؛ وهذه أكبر نقط الضعف المعنوي في بنائه، فالقوميات والشعوب الحديثة لا تقام باسم الدين؛ ولم يبق الدين في بلد من بلاد العالم المتمدين أساساً للدولة؛ ثم إن هذا الضعف المعنوي في الوطن اليهودي يتخذ مظاهره المادية، ففي فلسطين يجتمع الآن يهود من جميع الجنسيات والثقافات واللغات والنزعات السياسية، ومن المحقق أن العمل الإجماعي المتناسق بين هذه العقليات والبيئات المتباينة صعب التحقيق. والواقع أن معظم اليهود المهاجرين يفدون على فلسطين لبواعث اقتصادية قبل كل شئ، ولكي يحققوا لأنفسهم بعض وسائل العيش التي يفتقدونها في بلادهم الأصيلة؛ ومنهم من يفد قراراً من الاضطهاد الذي يفرض عليه؛ وهنا نستطيع أن نقول إن الوطن القومي الحديث كان وليد الخصومة السامية (حركة العداء ضد اليهود) أكثر من أي عامل آخر؛ وهذا أيضاً عامل مصطنع في بنائه؛ وإذا كان الوطن