رأس الطريق في ساعات معينة من النهار! وكانت تقابل سيد الأعمى في غالب الأوقات التي ترد فيها البئر، وكثيراً ما اترع لها الجرة، وأعانها على حملها، أو ملأ لها الحوض الصغير الذي على يمين البئر لتغسل وجهها ورجلها فبل الذهاب إلى بيتها، وكانت تطوى كميها إلى مرفقيها، وتحسر شالها عن شعرها، وترفع ثوبها إلى ساقيها وهي منحنية على الحوض تغتسل. كانت تفعل ذلك، دون خجل أو حياء لأن سيداً أعمى.
واستراح سيد الأعمى مرور الأيام لمحضَرها حتى أصبح يشعر في الأيام التي تتخلف فيها بالانقباض والوحشة. كان يحس، من أعماق نفسه، أن شيئاً ينقصه، شيئاً يستريح معه، وينشرح له صدره، وتنتشي حواسه، وتهدأ ثائرة أعصابه.
وكانت جميلة تدفعها غريزتها أول الأمر إلى الخوف منه واتقاء شره كرجل، بصر النظر عن كونه أعمى، ولكنها ما لبثت - بعد الانفراد معه مرة ومرات - أن استراحت واطمأنت ووثقت من عفته وخلقه، حتى كانت تخرج معه إلى حد المداعبة، كأن تخفي عكازته، أو تخلع الدلو، أو تقطع الحبل، أو ترشه بالماء، وكان يضحك لهذا حتى يرقص قلبه، ويلوح لها بعصاه مهددا. ً على أن هذا التآلف الذي أصبح بين سيد وجميلة، لم يشجع غيرها من النساء على القرب من البئر، لأنهن كن لا يعلمن بتغير حاله، وإن علمن لا يصدقن، ولم يكن هو يزجرهن عن البئر، ويمنعهن من ملء الجرار منها، لأنه كان يخاف على الماء فقط، بل لأن شيئاً خفياً في أعماق نفسه، كان يدفعه إلى النفور منهن وإبعادهن عن جوه. . . دافع باطني عجيب كان يخرجه عن هدوئه وسكونه، عندما يسمعهن يتحدثن على الماء أعذب حديث وأرقه، كان يرجف له ويضطرب، وهو الرجل وهن النساء. . .
شعور باطني غريب كان يحمله على فعل ذلك ولم يستطع تحليله ولا تعليله، وهو الجاهل الذي لم يذهب إلى المدرسة ولم يدرس علم النفس. لقد قضى الرجل حياته بعيداً عن جو المرأة فأخرجها عن دائرة تفكيره، بعد أن خرجت عن دائرة وجوده، ولم يعد يفكر فيها مطلقاً. . . لم يعد يفكر فيها، ولا يحن إلى لقياها، ولا يستريح لرفقتها.
وكان يتضايق حتى من وجود أم سيد معه في منزل واحد. . . وإن كان ينام بعيداً عنها، ولا يلاقيها إلا نادراً - غالباً في الأوقات التي كان يرجع فيها إلى البيت مبكراً ليتعشى - فكان يتذمر ويضطرب لمحضرها، وإن كان يعدها أُماً. كان يرتجف لوجودها معه، ويحس