كذلك لم يبق لبريطانيا ما كانت تتمتع به من التفوق في وسائل الإنتاج الصناعي بل أصبح يشاركها في هذا التفوق على الأقل عدد من الأمم الأخرى، وسبقتها الولايات المتحدة وألمانيا في تطبيق العلم على الصناعة تطبيقاً حديثاً. وسبب ذلك أن رجال الأعمال فيها لا يزالون يحتقرون البحث العلمي، وأن بريطانيا تأخرت عن غيرها من الأمم في استخدام النظم الحديثة للإنتاج الكبير وفي تنظيم الصناعة تنظيماً يرمي إلى الوصول إلى أبعد حدود الاقتصاد والإتقان مجتمعين. وهي تقاسي الآن من جراء تأخرها هذا أوخم العواقب كما تقاسي عناد كثيرين من أصحاب الأعمال فيها وتمسكهم بالقديم الرث وتَشَدُّدهم في الاحتفاظ بكل ما كان صالحاً أيام آبائهم، وتقاسي أيضاً عاقبة عناد نقابات عمالها الكاملة النظام والتي تخلق الصعاب إذا ما أريد تغيير الوسائل الصناعية وخشيت أن يصيب العمال من جراء ذلك التغيير عطل مؤقت، وتتمسك أشد التمسك بالقيود والإجراءات التي كانت تسير عليها في سني الرخاء السابقة للحرب. كذلك لم يبق لبريطانيا ما كان لها من تفوق في امتلاك مصادر القوى الصناعية لأن فحمها الآن يوجد على عمق أكبر من عمق الفحم الجديد الذي يستخرج من الولايات المتحدة وغيرها من البلاد، وقد أبطأت في استخدام أنجع وسائل الإنتاج الكبيرة في صناعة الفحم وفي اتباع الطرق الآلية لتقليل نفقات الإنتاج. وزيادة على ذلك فإن مصادر أخرى للقوة لا تملكها بريطانيا أخذت تحل محل الفحم في كثير من الصناعات، فمنها القوى المائية التي لا تستطيع بريطانيا أن تنافس فيها البلاد ذات المجاري الكثيرة المتدفقة من رؤوس الجبال، ومنها النفط الذي لا تكاد تنتج أرضها منه شيئاً والذي لا بد لها أن تستورده وتنفق على استيراده أموالاً طائلة كل عام
ويلوح أيضاً أن ما كان يتصف به أهلها من نشاط وقوة مغامرة بدأ يضمحل وإن كان هذا مما لا يستطاع إثباته بالإحصاءات. وسبب هذا الاضمحلال أن بريطانيا خاضت غمار الحرب معتمدة على نظام التطوع الاختياري؛ ومعنى ذلك أن خير أبنائها وأشدهم حماسة ذهبوا إلى ميدان القتال أولاً وهلكوا زرافات. وقد يكون هذا هو السبب فيما نشاهده بعد الحرب من نقص مخيف في رجالها المُبرِّزِين الذين يتقدمون طائعين لتحمل التبعات ومواجهة الصعاب وهو أمر مشاهد في كل ناحية من نواحي الحياة: في السياسة وفي الأعمال الصناعية والتجارية وفي الفنون، فكلها لم يظهر فيها بعد الحرب رجال أوتوا حظاً