بهؤلاء الولدان المخلدين الذين يطوفون على المؤمنين بأكواب من فضة، ولا بالحور العين. . . ولا يؤمن بما جاء في أول سورة الدهر مما اعد للكافرين من سلاسل وأغلال وسعير. . وإذن، فليكتب أبو العلاء إلى ابن القارح، وليخضع في كتابته إلى ابن القارح لما تسميه السيكلوجية (تداعي المعاني) فيدخل به الجنة. . . ولكن قبل أن يدخل الجنة لا بد أن يبعث. . . وقبل أن يبعث لا بد أن يموت. . وسيلقاه عزرائيل ساعة الموت، فلا بأس من أن يناقشه أبو العلاء مناقشة صرفية فكهة مضحكة، فإذا دخل القبر وأغلق عليه وجاء الملكان منكر ونكير فأي بأس من أن يجادلهما كما جادل عزرائيل، فإذا رفعا الأرزبة ليدقا بها عنقه فأي بأس أيضاً من أن يربكهما بمناقشة صرفية عن هذه الآلة المحطمة ليشغلهما قليلاً عن تعذيبهما إياه. . . ثم أي بأس أيضاً من أن تستمر هذه المناقشة الصرفية في كل مكان من البعث، إلى أسوار الجنة، إلى الصراط، إلى داخل الجنة نفسها، إلى جهنم. . . الخ أليس قد أراد أبو العلاء أن يشارك ابن القارح سخريته؟ فلم لا يشاركه دعابته؟ ولم لا يداعبه تلك المداعبة المضحكة بشرط ألا يفهم أنها دعابة إلا ابن القارح، فإذا قراها رجل غير ابن القارح وكان عارفاً باللغة وأسرار نحوها وصرفها راقه ذلك التحقيق الفقهي لتصريف تلك الكلمات التي لا يسمن تصريفها ولا يغني من جوع من مثل (عزرائيل وملك وإرزبة وجهنم. . . الخ. . .) فإذا كان القارئ مؤمناً ورعاً يسره الحديث عن الجنة وملاذها ويخيفه الحديث عن جهنم وآلامها شاقه حديث الرسالة عن متع الفردوس، وهذا الإوز الذي ينتفض فيكون حورا عينا بإذن الله، وسمك الحلاوة الذي يسبح في أنهار الخمر والعسل واللبن والأري. . . وأخافه ما يرى في السعير من صنوف المجرمين الكافرين الذين كذبوا بيوم الدين. . . وما يكذب به إلا كل معتد أثيم. . .؟!
وقد طرب أبو العلاء أيضاً، وازدادت ثقته بصاحبه لأنه عرف فيه رجلاً يعطف مثله على الحيوان. . . . . لأنه (حدثه من يثق به وكان زاهداً (!) قال: كنت مع أبي البكر الشبلي ببغداد في الجانب الشرقي بباب الطاق، فرأينا شاوياً، وقد اخرج حملاً من التنور، وإلى جانبه قد عمل حلاوي فالوذجا، فوقف ينظر إليهما، وهو ساه مفكر، فقلت: (يا مولاي! دعني آخذ من هذا وهذا ورقاقاً وخبزاً، ومنزلي قريب، تشرفني بأن تجعل راحتك اليوم عندي، فقال: (يا هذا، أظننت أني اشتهيتهما؟ وإنما فكري في الحيوان كله!! لا يدخل النار