سقراط وأفلاطون وأرسطو، وأن الناس قد أخذوا لحاهم أخذا شديداً فلم يدعوا فيها شعرة واحدة. ولقد رأيت كاتباً عبقرياً أخذ على نفسه أن ينقد الأدباء. وواتاه القلم على عادته وأصاخ له الناس على عادتهم، وهو إذا تكلم أو كتب فالناس كلهم أسماع
ثم استعرض بين حين وحين كتاباً فكان كل ما استعرضه أو جله دواوين للشعر، وهذا حسن، فلعله قد خصص نفسه للغة وما يتعلق بها، وقرأت نقده كما قرأه الناس فكان لبقاً كعادته حلو الحديث مما وهبه الله في اسلوبه، ولكني لم أستطع أن أفهم ما قال. فلقد كان قوله إما مدحاً يسر الخاطر ويشرح الصدر - أقصد صدر المؤلف الممدوح، وإما ذما يكسر القلب ويدمي الفؤاد - وأني لم أكن أحد هؤلاء الشعراء فلهذا لم ينلني ذمه بألم ولا مدحه بفرح، وعلى ذلك خرجت من كل ما كتب، ولم أفقه شيئاً، ولم أعرف ماذا أراد أن يقول
إن أغلب ظني أن الغباوة هي التي قد حالت بيني وبين فهم ما قال ذلك الأديب الكبير، ولكني لم أسأل أحدا من أصدقائي عن رأيه إلا وجدته على مثل حظي من الغباوة وقلة الإدراك
ولهذا السبب كان ذلك الأديب كثير التردد والتقلب في رأيه، فبينا هو اليوم يصفق إعجابا بشاعر أو يصيح تقديراً لأديب، إذا به بعد قليل وقد لمح من ذلك الشاعر أو من ذلك الأديب نكراناً لفضله أو جحوداً لجميله فينقلب مدحه إلى ذم يكاد الدم يسيل من وقعه
ولقد حسبت مرة أن ذلك الأديب الكبير قد خصص نفسه للنقد حقاً، فأرسلت إليه بمؤلف حقير لي ثم تواريت خجلاً وجعلت أنتظر نقده وأقرأ جرائده كل يوم مدة طويلة حتى مللت ولم أظفر بشيء. ثم نسيت ذلك الأمر وعدت بعد سنوات إليه فأرسلت إليه بمؤلف آخر لا يقل في حقارته عن المؤلف الأول، وقلت في نفسي إنه في هذه المرة لابد واثب على كتابي، وممزقه كل ممزق - ولبثت أنتظر طعنته وأنا متوار، وطال بي الانتظار على غير جدوى، فعرفت أن من الكتب ما ينحط عن مقدار النقد، ولو قد تكرم ذلك الناقد فقال لي كما قال مرة لأحد الشعراء:(إنك لا تعرف شيئاً) لما تألمت مثل تألمي من سكوته عني، لأني كنت عند ذلك أفاخر الناس بأن ذلك الأديب قد قرأ كتابي، وحكم عليّ بأني لا أعرف شيئاً. ولا عجب في ذلك، فقد كان من أجدادي رجل - كما كان من أجداد كثير من القراء مثل جدي - أقول كان من أجدادي رجل إذا امتنع عن دفع المال للحاكم أمر المدير فأحضره