للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

النهر والتي كانت تبدو لي في الظلام سوداء أنعشت روحي وبردت دمائي التي كانت تغلي في عروقي ووهبتني السكينة والهدوء لأعصابي التي أثارها الغيظ والغضب، والروح لقلبي الذي أجهده حب عقيم، ولكنه مع ذلك مضطرم. وقد كلمتني الأشجار الوارفة، والمياه الجارية، والهواء الندي، والظلال المديدة تحت الألفاف المتشجّنة. وقالت لي كلها أني مخطئ في ثورتي وغضبي وأني يجب أن أعرف وأدرك أني لا شيء في حياة ذات الثوب الأرجواني، ولما كنت لا شيء فإن من التطاول والغرور أن أحاول أن أحشر نفسي في حياتها، وأن أزحمها بوجودي وأن أهيمن عليها وأسيطر. نعم أنا لاشيء. وليس لي عند ذات الثوب الأرجواني شيء. . لا اختلاجه واحدة من جفنها. ولا نبضة من عروقها. ولا خفقة مفردة من قلبها، ولا خاطراً مما يجول في رأسها أو يدور في نفسها. . ولا نفساً واحداً من هذه الآلاف والملايين من الأنفاس التي يعلو لها صدرها ويهبط. . حتى هذا الذي هو للهواء ليس لي منه شيء!!

وقضيت يومين بين أحضان الطبيعة الصريحة فكانت أشجارها ومياهها وأطيارها تعيد على مسمعي هذا المعنى في كل ليلة وتكرره وإن اختلفت الأنغام وتعددت الأصوات، وما كانت تعيد أو تسمعني إلا ما كانت نفسي تحدثني به، وقلبي يخبرني أنه الحق الذي كنت أحاول بالأمل أن أخنقه كل ليلة في ظلمة الليل على وسادتي كأنه صوت (ديدمونه) إذ يميل على عنقها عطيل بيديه الكبيرتين الغليظتين.

وعدت وقد وطنت نفسي على اليأس، وخيل إلي أنها سكنت واطمأنت، فجلست في شرفتي ملفوفا في سواد الليل، وفي قلبي برد السكينة، أنظر إلى النجوم المتلامحة، ولا أنظر إلى شرفتك وإذا بصوتك يهفو إلي منها. . . صوتك إذ تنادين أخاك. . فذهبت سكينة نفسي ومزقتها العاصفة الكامنة في أعماق البحر، وأحسست أن روحي كلها تهزها نبرات هذا الصوت العجيب. . . وخفت صوت الطبيعة التي ناجتني به في الريف في ظل الشجر وعلى سيف النهر. . وكنت تميلين على حافة الشرفة وترسلين الصوت مجلجلاً في سكون الليل، وتهيبين بأخيك أن يرتد إليك قبل أن يذهب في شأنه، فوددت لو أقف وأصيح به وأعينك على أسماعه ورده! ونهضت فعلاً، ولكني وضعت يدي على فمي، وكتمت ما كان يوشك أن ترتفع به عقيرتي ثم انحططت على مقعدي وقد شاع فيّ اليأس (علوا وسفلا) كما

<<  <  ج:
ص:  >  >>