يقول النواسي - اليأس من الشقاء - والسخط على نفسي إذ ذهبت إلى الريف وحرمت نفسي مرآك يومين كاملين بلا جدوى.
كلا. . لست ذلك (اللاشيء) الذي زعمتني الطبيعة الساذجة!. وليس صحيحاً أن أنفاسك كلها ذاهبة في الهواء كما تذهب أنفاس الناس. . ولا أن خفقات قلبك ليس لي منها نصيب. . ولقد غافلتك ومضيت إلى غرفة مظلمة واستعنت بمنظار مكبر، فإذا عينك على شرفتي، وإذ أنت تتلفتين ثم تحدقين لتتبيني ولتعرفي أباقٍ أنا في الشرفة حيث كنت أم دخلت؟. وكنت قد غالطتك وخادعتك فأسندت شيئاً على الكرسي مكاني لتظلي متوهمة أني هناك حين تنظرين، ولأستطيع أن أعرف أين تنظرين حين تفعلين. . فزال الشك فقد طال تحديقك ثم كأنما رابك شيء من جمود هذا القائم على الكرسي فجعلت تتحولين إلى كل موضع في الشرفة وتنظرين، ولبثت هكذا زمناً ثم دخلت، فما كان مني إلا أن أسرعت وعدت إلى الكرسي فقعدت عليه مطمئناً كما كانت الحبشية التي وضعتها قاعدة! إذن كانت لي تلك الوردة الحمراء التي نفضت عنها طلّها وشممتها. . ولي هذه الإشارة إذ تظهرين على الشرفة فترفعين أناملك إلى خصل شعرك المرسل وتردينها عن أذنك. . ولي هذه الابتسامات الوضيئة حين يسرك من جليسك أو جليستك ما تسمعين. . . وأذن لم يكن عفواً أن الفتاة التي زارتك عصر يوم كانت لا تنفك تدير وجهها وتنظر إلى ناحيتي كأنما تريد أن تراني. ولقد عجبت يومئذ لكثرة تلفتها ونظرها إلي وظننت أن هذا من الفضول المألوف، ثم ترددت وشككت فقد رأيتك تتكلمين ورأيتها تتلفت، فتخفين أنت وجهك حتى ترد هي وجهها إليك. وتكرر هذا مع زائرة أخرى جلست معك في الشرفة - وكنت أحسبها قديماً أختاً لك متزوجة لمشابه رأيتها فيها منك - وكان ظهرك إليّ وجهها هي إليك وإليّ، وكان الكلام يدور بينكما، ولكن عين الزائرة لم تكن إلا عليّ أنا، وأنا أتشاغل عنكما ولكني أراكما، وقديماً قالت أمي عني أن لي عيناً في قفاي. . وإذن ليس عفواً أن أهلك جميعاً معنيون بي وأنهم لا يزالون يراعونني وينظرون إلي بل يراقبونني - لولا أني أكره هذه اللفظة - حتى ليبدو لي أحياناً أنهم يصطفون في الشرفة ويبعثون إليك وأنت في الحجرة بأخباري وأنبائي لتعرفي أباق أنا أم خارج. كأنما يحجرون عليك ويمنعونك أن تظهري لي، ولا يسمحون لك بالبروز إلا بعد أن يوقنوا أني خرجت وأن في الوسع اتقاء شري. .