الريح السافية تمحوه، ولا واكف المطر يهطل على رسومه. لقد كان الشعراء الأولون يقفون على أطلال حبائبهم، فتملأ نفوسهم تشوقاً وحسرة على ما مضى، فيقولون الشعر فيما يحسون، أما نحن في هذا العصر فلا نقف - بعد زوال عهد الصبابة - إلا على ما تحتويه أدراج المكاتب من الرسائل الغرامية والصور الفوتوغرافية وما إلى ذلك، فمن يقف منا على طلل فإنما يقف على طلل الزمن القديم لا على طلل الأحبة
على أنه مهما يكن من شيء فان الأستاذ نسيم يكاد يبلغ في هذا المعنى مبلغ المجيدين من قدامى الشعراء، وخاصة في قوله:
(لك البلى ولى التبريح والعلل)
والقصيدة ليست في موضوع خاص، وإنما هي (لامية نسيم) أي أن موضوعها ما يقوله نسيم على قافية اللام. . . وهي مع هذا منسجمة المعاني، متآلفة الأجزاء، يزينها البيان، وأبياتها عامرة بالمعاني، منها قوله في وصف المشيب:
قل للمشيب إذا ما لاح مشتعلاً ... ما أنت إلا لظى في القلب مشتعل
إلى أن يقول:
كأنه أحرف بيض يسطرها ... في مفرقي كاتب للعمر مختزل
وأناشدك الشعر أن تقف معي برهة عند هذا القصر الفخم، لا البيت، ولا الطلل الذي وقف عليه الشاعر؛ لنجتلي ما يحتويه من الغرائب، فهذا كاتب يتعبه الحساب: حساب سني العمر الطويلة، فيعمد إلى اختزالها بطريقة غريبة، وهي تسيطر الحروف البيضاء في المفارق
ومن محاسن القصيدة قوله:
شرٌّ من الخطب مثر رحت تحسبه ... أهلاً لغوثك وهو العاجز الوكل
يختال في حلل خز ولو عقلت ... لنسلت نسجها من خزيها الحلل
وكيف يفخر مغتر بحليته ... وصدره من قلادات النهى عطل
شأن الغني الذي يضحي بلا عمل ... شأن الغبي الذي يزري به الكسل
ولكن وصفه لنفسه، بضمير الغائب، في قوله:
كأنه شامخ لا الحزن يوهنه ... ولا يحرك من أركانه الجذل
لا يليق بالشاعر الذي من خصائصه أن يكون مرهف الحس فلا بد أن يطرب ويحرك