للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

ولا مندوحة لي هنا عن القول بأن تنبؤه في الأعراب أمر وقع حقيقة ولا سبيل إلى الشك فيه، تضافرت على ذلك كل المصادر الموثوقة، حتى التي كانت تميل إليه كل الميل، فأنها لم تنف الأمر وإنما التمست له المعاذير. وما كان أغناها عن ذلك، فأن في السن التي وقعت فيها هذه الزلة العذر كل العذر؛ وليس من الأنصاف أن نلمز حياة خمسين سنة من أجل هناة كانت في سن الفتوة. فلأشرع في ذكر هذا التنبؤ بإيجاز؛ ثم لا فض في علاقة الرجل بالدين مدى حياته. وسأعتمد في قص الحادث على أبي العلاء خاصة، لفضله ولتحريه وقرب زمانه. وسأعفي نفسي من أشياء كثيرة وردت في (الصبح المنبي) لا يقبلها عقل ولا تؤيدها قرائن

وقع المتنبي إلى بادية السماوة وأظهر دعوته، فتبعه قوم من الأعراب من بني كلب، خلبهم بذلاقة لسانه، وحسن بيانه. وتلا عليهم كلاماً زعم أنه أنزل عليه. نقله الأنباري في طبقاته عن أبي علي بن حامد قال:

(وكان قد تلا على البوادي كلاماً زعم أنه قرآن أنزل عليه. فكانوا يحكون له سوراً كثيرة نسخت منها سورة ثم ضاعت وبقي أولها في حفظي وهو: والنجم السيار، والفلك الدوار، والليل والنهار، إن الكافر لفي أخطار. امض على سننك واقف أثر من قبلك من المرسلين، فان الله قامع بك زيغ من ألحد في دينه وضل عن سبيله).

وقد حفظ لنا التاريخ مشهداً من مشاهد هذه الدعوة في اللاذقية، ولا ريب أنه كان بعد أن توثق أمر المتنبي بعض التوثق في البادية. قال أبو عبد الله معاذ بن إسماعيل اللاذقي:

(قدم أبو الطيب المتنبي اللاذقية في سنة ٣٢٠هـ وكان عمره يومئذ سبع عشرة سنة وهو لا عذار له، وله وفرة إلى شحمتي أذنيه، فأكرمته وعظمته لما رأيت من فصاحته وحسن سمته؛ فلما تمكن الأنس بيني وبينه وخلوت معه في المنزل اغتناماً لمشاهدته واقتباساً من أدبه قلت له: (والله انك لشاب خطير، تصلح لمنادمة ملك كبير.) فقال:

(ويحك! أتدري ما تقول؟ أنا نبي مرسل.) فظننت أنه يهزل، ثم تذكرت أني لم أسمع منه كلمة هزل قط منذ عرفته فقلت له: (ما تقول؟) فقال: (أنا نبي مرسل.)

فقلت له: (مرسل إلى من؟)

قال: (إلى هذه الأمة الضالة)

<<  <  ج:
ص:  >  >>