وألْقتهم منها وتخلت، رحل به إلى المشرق، وحل فيه محل الخائف الفرق، فجال في أكنافه، وأجال فيها قداح الرجاء في استقبال العز واستئنافه، فلم يستردّ ذاهباً، ولم يجد كمعتمده باذلاً له وواهباً، فعاد إلى الرواية والسماع، وأبو بكر إذ ذاك في ثرى الذكاء قضيب ما دوّح، وفي روض الشباب زهر ما صوّح، فألزمه مجالس العلم رائحاً وغادياً، ولازمه سائقاً إليه وحادياً، حتى استقرت به مجالسه، واطردت له مقايسه، فجد في طلبه، واستجدبه أبوه متمزق أربه، ثم أدركه حمامه، ووارته هناك رجامه، وبقي أبو بكر منفرد، وللطلب متجرداً، حتى أصبح في العلم وحيداً، ولم تجد عنه رياسته محيداً، فكَرّ إلى الأندلس فحلها والنفوس إليه متطلعة، ولأنبائه متسمعة، فناهيك من حظوة لقى، ومن عزة سقى، ومن رفعة سما إليها ورقى، وحسبك من مفاخر قلدها، ومحاسن أنس أثبتها فيها وخلدها، الخ الخ. . وقد وصفه القاضي عياض بما أوردنا بعضه عن حاله في القضاء، وفي هذا القدْرِ غناء. .
مقتطفات من منظومه ومنثوره
وأظنك لا تجهل أن أكثر علماء الأندلس وفلاسفتها وسائلا مثقفيها يقرضون الشعر، وقلّ أن تظفر بأندلسي لا يقول الشعر، ومن ثم لا تستغرب أن يكون مثل القاضي أبي بكر بن العربي شاعراً وشاعراً ظريفاً. . . فمن شعره وقد ركب مع أحد الأمراء الملثمين، وكان ذلك الأمير صغيراً، فهزّ عليه رمحاً كان في يده مداعباً، فقال:
يهزّ عليّ الرمح ظبي مهفهف ... لعوب بألباب البرية عابث
ولو كان رمحاً واحداً لاتقيته ... ولكنه رمح وثان وثالث
ولعل الرمح الثاني والثالث القد واللحظ. . ومن بديع شعره:
أتتني تؤنبني بالبكا ... فأهلاً بها وبتأنيبه
تقول وفي نفسها حسرة ... أتبكي بعين تراني بها
فقلت إذا استحسنت غيركم ... أمرت جفوني بتعذيبها
وحكى رحمه الله قال: دخل على الأديب بن صارة - وهذا ابن سارة أو صارة شاعر فحل من شعراء الأندلس - وبين يدي نار عليها رماد، فقلت له: قل في هذه، فقال:
شابت نواصي النار بعد سوادها ... وتسترت عنا بثوب رماد