للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وأظهر منه؟ فيم حاجة المترافع عن الحق إذن إلى الصنعة وإلى التفنن في أساليب الخطاب؟

أحد أمرين: إما أن المترافع يرمي إلى قلب الحقائق فلا بد له من زخرف القول يموه به ويغرر. وإما أن الحق المجرد بغيته ومطلبه، والحق المجرد ميسور بمجرد الطلب.

خطأ بالغ!

سل طلاب الحق في كل زمان ومكان ينبئوك بأن الكلام عن نوره الساطع وشمسه المتألقة وسلطانه القاهر خيال في خيال. حدثهم عن كنهه يخبرونك بأنه جوهر نادر ثمين مستقر في أعمق الأعماق، خفي على الباحث، عصي على المستخرج؛ وأن وجوده إذا هو اكتشف وجود نسبي يقتصر في الغالب على المكتشف، فإذا ما أراد هذا أن يثبت اكتشافه للغير وجب أن يعد نفسه لحرب عوان ليس له من سلاح فيها غير بيان حسن، ومنطق واضح، وبلاغة غالبة.

يحكى عن أومرسون أحد جهابذة الفقهاء في عصره، وقاضي القضاة في عهد لويس الخامس عشر، أنه قال: (والله لو اتهمت بسرقة برجي كنيسة نوتردام وجرى الغوغاء في أثري صائحين: (اللص، اللص) لبدأت دفاعي عن نفسي بإطلاق ساقي للريح).

مبالغة ولا شك، ولكنها مبالغة أراد بها من عرك المحاكم دهراً أن ليس في عالم القضايا شيء يزاحم البديهة ويقر له بالصحة حتماً. وإنه يكفي أن توجد تهمة لكي يوجد بجانبها خطر الحكم على المتهم ظلماً، أو تبرئة الجاني خطأ.

على أنه من ذا الذي يستطيع التحدث عن الحقيقة المجردة المطلقة؟ أين الحق الذي لا يمازجه باطل؟ وأين الباطل الذي لا يمازجه حق؟ النسبية قانون متمش في كل شيء في الوجود؛ وليس أسهل من تبين حكمه في عالم الحقوق؛ ورحم الله الإمام الأعظم أبا حنيفة، فقد قال لتلاميذه يوماً: (أراكم تسرفون في الأخذ عني، فو الله إني لأرى اليوم رأياً أعدل عنه غدا إلى عكسه). وسأله سائل مرة: (هذا الذي تفتي به أهو الحق الذي لا شك فيه؟). قال: (والله لا أدري، فقد يكون الباطل الذي لا شك فيه).

في كل دعوى إذن مزاج من الحق هو أشبه شيء بالذهب تخالطه عناصر كثيرة متنوعة على المترافع أن يطهره منها فيخرج بالمعدن النفيس متألقاً وهاجاً. وأنىّ له ذلك إلا أن

<<  <  ج:
ص:  >  >>