المسألة شائكة حقاً. وإنه ليكفيك أن تسمع واحداً من شيوخ مدارهنا المقاويل لكي تأخذك الحيرة ويعصى عليك الحكم.
أينا لم ير الهلباوي في أحد مواقفه الرائعة؟ إنه يتكلم الفصحى فيزري بفقهاء اللغة. ولكن الرجل محام بطبعه وسليقته فهو يعرف أن العربية الصحيحة ما تزال إلى اليوم لغة صنعة، وأنها ما تزال تجهد المتكلم والمخاطب معاً. والإجهاد إذا طال انتهى إلى الملل والسآمة. لهذا تراه وقد فرغ من التحليق في سماء البيان وانتهى من قرع الأسماع في نقطة معينة بخطاب فخم داوي الألفاظ رنان العبارة، تراه بعد هذا وقد هبط بك من جوه الأعلى إلى سهل موطأ من كلام عامي يروي به لطيفة من لطائفه السائغة، أو يسوغ منه ملحة من ملحه العذبة البارعة، أو يبري منه سهماً من السخر الفتاك ينفذ به إلى مقاتل الخصم.
أنودع من غير أسى هذه اللهجة الحلوة التي طبعها الخلق المصري بطابعه الخاص منذ ألف أو يزيد من السنين وأصبحت مظهراً قومياً تتيه به مصر على جاراتها العربيات كلما ذكر موسيقى اللفظ وخفة وقع الكلام على السمع وسرعة نفاذه إلى القلب؟
لا. سوف تبقى العامية إلى جانب العربية الفصحى لغة مرافعة إضافية تصاغ منها النكتة البارعة يخف بها الضجر ويطوي بمعونتها ملل الجلسات الطويلة القاحلة. سوف تبقى لغة كلام متبخر زائل بزوال الجلسة التي يقال فيها. وليس من بقائها ضرر فهي لن تطغي على الفصحى بحال، ولن تقوى على الحلول محلها في موضع الجد وعند المناقشة الحامية تدور حول مسائل علمية أو موضوع خطير.
بل إن تخش شيئاً فاخش زوال العامية بزوال الأمية وانتشار التعليم. بل لقد بدأت هذه النهاية فعلاً. فإن اللغة التي يتفاهم بها عامة أهل المدن هي بالتأكيد غير ما كان يتخاطب بها آباؤهم منذ خمسين عاماً. إنها أقرب إلى الفصحى بفضل ما تذيعه الجرائد السيارة والمجلات المصورة وغيرها من صحيح الألفاظ والعبارات، ولن يمضي طويل حتى تصبح الحال كذلك في الأرياف فتدول دولة العامية ويسود مصر من أقصاها إلى أقصاها لسان راق أكبر أملنا أن يتجدد به شباب لغة القرآن.