إذا امرؤ راعني بغدرته ... أوردته الغاية التي خافا
وأراد أبو الطيب أن يسلك إلى مكان اسمه البياضي فأرسل فليتة إلى الأعراب الذين في طريقه فعميت عليه أنباؤهم، وخشي أن يكون له على طريق رصد، فعدل إلى دومة الجندل. وواصل سيره حتى بلغ الكوفة في شهر ربيع الأول سنة ٣٥٢ بعد ثلاثة أشهر من خروجه من الفسطاط.
فهل يستطيع أن يسير هذا المسير، ويفعل هذه الأفعال إلا بدوي جريء خبير بالبوادي؟
أليس في هذا تصديق قوله:
الحيل والليل والبيداء تعرفني ... والسيف والرمح والقرطاس والقلم
لا يحق له أن يفخر به فيقول:
فلما أنخنا ركزنا الرما ... ح بين مكارمنا والعلى
وبتنا نقبّل أسيافنا ... ونمسحها من دماء العدى
لتعلم مصر ومن بالعرا ... ق ومن بالعواصم أيّ الفتى
وأني وفيت وأني أبيت ... وأني عتوت على من عتا
وما كل من قال قولاً وفَى ... ولا كل من سِيم خسفاً أبى
ومن يك قلب كقلبي له ... يشق إلى العزّ قلب النوى
ولا بد للقلب من آلة ... ورأى يصدّع صمّ الصفا
وفي هذه القصيدة روح البداوة وألفاظها. انظر قوله:
وقلنا لها: أين أرض العرا ... ق فقالت: ونحن بتربان ها
واسأل اليوم بدوياً عن مكان قريب يقل لك: ها
- ٤ -
وفي قصة هجاء ضبة بن يزيد العيني دليل آخر على تبدّيه. فقد اجتاز بالطفّ فنزل بأصدقاء له. وساروا إلى ضبة وسألوه أن يصحبهم فلم يسعه إلا المسير معهم، كما يقول الشاعر في بعض الروايات:
فسير الشاعر مع أصدقائه إلى قتال ضبة أو إرهابه دليل على ما تمكن في نفسه من عادات البادية.