أن يأخذ به نفسه إذا اشتد به الضيق، أو سد في وجهه الطريق، ثم أرجع إلى كتاب الله أقرأ فيه وأتبصر في معانيه، فأجد فيه للنفس شفاءها، وللروح غذاءها، وأجد قوة على احتمال الشقاء، وسبلاً للخلاص من البلاء، ويهون في نفسي كل ما هالها، ويصغر في عيني كل ما تعاظمهما، فما ألبث حتى تستشعر نفسي شيئاً من الصبر والرضا، ويشع في أعطافها وحواشيها نور من الأمل والرجاء، ثم تطمئن إلى ما تجد، ثم تخلو من الهم، وإذا أنا هادئ وسعيد.
أرجع إلى بيتي فتلقاني ابنتي الصغيرة متهللة مستبشرة، فأحملها بين يديّ وأقبلها وتمضي تحدثني بما أفهم ولا أفهم من لغوها، ثم تسعى بيني وبين أمها، ويطول لغوها وسعيها، ثم تنظر إلى كل منا وعلى وجهها الصغير آيات البشر بادية، وتحاول أن تشركنا في هذا المرح الذي تشعر به، وتود لو تفيض علينا منه. فيعز علي أن أعذب هذه الطفلة البريئة بعبوسي، ويكبر عليّ أن أكدر صفوها بوجومي، وأن أحمل إليها وإلى أمها همَّاً لا قبل لهما به ولا يد لهما فيه، ولا حيلة لهما في صرفه عني. فأتناسى ذلك الهم الذي كان مبعث شقائي ثم أنساه، وأمزق عن وجهي غشاوة العبوس التي كانت تغشاه، ثم أمحوها محواً، وإذا علي الوجه ابتسامة تكون قلقة حائرة أولاً، ثم تتصل بالنفس فتستقر وتصدر عن إحساس أخيراً، حتى إذا انصرف عن النفس بعض همها الذي ملكها خلت إليّ هذه النفس تحدثني ببعض ما يجب على الرجل نحو أبنائه وأهله. وتبسط لي كيف يجزى الطفل على بنوته وطهارته وضعف حيلته، وكيف تجزى الزوجة على أنوثتها الضعيفة. وأمومتها السامية الشريفة، ورعايتها لزوجها ووفائها له. فأذكر إذ ذاك العطف والحنان، والرعاية، والوفاء، وعرفان الجميل، وحسن التقدير، ويذهب هذا كله بما بقي في نفسي من همّ. وإذا أنا بعد هذا وبهذا مطمئن وسعيد.
وثالث هذه السبل هو هذا القلم الذي أكتب به: أصل بينه وبين نفسي فإذا ما فيها من الهم والأسى ينساب إلى قناته في سهولة ورفق واطراد، وإذا هو ينثر ما في النفس على الورق ألفاظاً وأسطراً وصحائف. وما أزال أكتب حتى يقف القلم، فأنظر إلى نفسي فإذا القلم قد استنزف كل ما فيها من الهم لم يترك بقية ولا ذُمَامَة. فأقرأ ما كتبت وأقيسه بما كان في نفسي، فإذا هو هو لا يزيد عنه بمقدار ولا ينقص عنه بمقدار. وإذن لقد أفرغت نفسي من