كلاهما يترافع بالعربية. وكلاهما يستعمل كلمة الرأفة أو الشفقة. فكيف يتفاوت أثر مرافعتهما هذا التفاوت؟
فتش وابحث وسل علماء النفس ينبئوك بأن واحداً من الاثنين حساس يستشعر ما يقول ويتأثر به فتنتقل منه عدوى التأثر إلى الغير.
والتأثر لكي يكون له هذا الأثر يجب أن يكون صادقاً. وهو لا يكون صادقاً إلا أن يصدر عن يقين واقتناع.
وإن تعجب لشيء فاعجب لهذا الاقتناع يبدو لك صادقاً - وهو صادق بالفعل - في قضايا يستحيل على العقل أن يصدق أن كلام المحامي فيها وليد الاقتناع وليس في الأمر مع ذلك معمي.
ذلك أن المحامي القادر إذا ما أخذ على عاتقه المرافعة في قضية صعبة راح يفكر في صعوبتها ورائده الرغبة في التغلب عليها وتلح عليه هذه الرغبة وتلحف بقدر ما يستعصي المخرج ويبعد الحل.
ثم ينتهي الأمر بتذليل المحامي للعقبة أو اعتقاده أنه ذللها. وفي هذه الحالة الثانية تطغى الرغبة على العقل وتستعبده، وقد يكون جباراً قوياً يندفع بقوة الإيمان الصحيح.
جمعني وأستاذي الكبير مرقس فهمي قضية مخدرات كان المتهم الأول فيها رجلاً معروفاً. ولم يكن في القضية منفذ لإبرة لا من حيث أدلتها ولا من حيث أدبياتها. فالمتهم ضبط متلبساً بالجريمة ولم يكن له عذر مقبول من أي نوع. بل بالعكس كانت الأسباب تحتشد وتتضافر لأخذه بالشدة، فقد كان الرجل مثقفاً غنياً لا يشفع له جهل ولا مسيس حاجة. فجئت الجلسة وكلي آذان لسماع مرقس فهمي. ماذا يستطيع الأستاذ العظيم أن يقول في هذه القضية اللعينة؟ أي دفاع يتحسس وأي عذر يتلمس؟ جلست أترقب وأنتظر. وأخيراً وقف مرقس للكلام. فإذا به يهاجم هذا الحصن المنيع من أكثر نواحيه منعة وأقلها توقعاً للهجوم. أجل لقد أخذ مرقس القضية عنوة من ناحيتها الأدبية، متوسلاً بما لاحظه من أن التحقيق كان سرياً فيها وأن المحامين قد منعوا عن حضوره. وانظر إليه كيف يرقى بقضيته التاعسة من أعماق الحضيض إلى سماء الرفعة، يجعلها مثار الكلام على الضمانات التي يشترطها القانون لصحة التحقيق وقدسية مهمة المحامي. أنظر إليه كيف يبدأ هذا الدفاع