وشرع الأمير كدأبه مع جميع الخاطبين، ينحر الجزر يوماً بعد يوم والفتى صامت لا يعترض ولا يجادل، ولا يتكلم إلا حيث يجمل الكلام، ويصمت حيث يجب الصمت.
وقد اجتذب فتانا بحسن سمته وقلة حديثه عن نفسه أنظار القوم وأيقنوا بأنه فتىً يختلف أبين الاختلاف وأشده عن بقية الخطاب، فلا ظهور ولا إدلال بالجاه ولا غرور ولا شيء من ذلك الذي كان يضيفه أولئك الخطاب إلى شخوصهم ليتقربوا به زلفى إلى الأمير. هذا إلى رجولة صريحة وفكر موزون ونبل ظاهر. وصار همَّ الجميع أن يجوز الفتى الامتحان المقيد ليكون هو وارث أميرهم والمؤمر عليهم بعده.
وبلغت أوصاف لفتى وذكر شمائله خدور النساء، وأضحى اسمه لديهن ملء الأفواه والأسماع. ولم تكتف سلافة بالسماع وكثيراً ما يفتن، وأرادت أن تشاهد هذا الفتى الموصوف وترى هل يصدِّق الخبر عنه الخبر أو لا يصدِّق. وانتحت ناحية خفية من بيت الأمير الواسع وأخذت تتقرى الرجال وتتفرس في الملامح وتصغي إلى الحديث، إلى أن وقع بصرها على الفتى الموصوف. . . .
وفجأة شعرت أن قلبها يخفق أكثر مما اعتاد أن يخفق، وخيل إليها كان رئتيها لا تتسعان لكل ما تريد أن تدفعه إليهما من الهواء، وشعرت كذلك كأن هذا الفتى قليل الكلام يتحدث إليها ويخاطبها أعذب الخطاب. . . وخشيت إن هي بقيت حيث هي أن يشي بها اضطرابها أو تنم عليها أنفاسها المتهدجة، ويعلم القوم أن فتاتهم الرصينة الخفرة قد خفت ورعنت فجاءت تشهد خطابها خلسة من وراء السجوف، فتركت مكانها وفي قلبها كالسهام من العواطف المتباينة المتأججة، فثمة هذا الحب المفاجئ الذي أخذ عليها جميع مسارب الشعور؛ وثم خشيتها أن يفشل الفتى في الامتحان - إن يكن ثمة امتحان - وأخيراً إحساس قوي باللوم لهذا الأب المتعنت الذي لا يرضيه من الفتى ما رأى ورأى الجميع إلا أن يجوز الامتحان. وفي الحق لقد بدأ يخامر سلافته أن أباها إنما يصطنع هذه الأساليب الغريبة لينفر الخطاب وليبقيها عانساً يتأكلها الجوى ويغويها الحرمان. والمحب - كما تعلم - إذا أحب حباً قوياً فقد التمييز واختلطت عليه الأفكار، ولا عجب إذن أن تنتهي في أبيها الذي يعبدها إلى مثل هذا الرأي الغريب.
حل اليوم العاشر وأوشك أن يزول، فقام الأمير يوجه الحديث إلى فتانا وقال: أيها الفتى