الفناء، فتصيح روحي: كلا إنه للبقاء. إن لم يكن للبشر مزية في الوجود، فلماذا توحي إليه المشيئة الخلود؟ أيها القبر إنما هذا السكوت، خطاب الحي الذي لا يموت.
(يستمر الشاعر يقيم الحجج على خلود الإنسان ثم يرجع إلى خطاب حبيبته ثم يخاطب الله بين الاعتراض والتسليم إلى أن يقول)
رب كيف لا أشكو؟ ألا يصيح الجريح؟ ما هذا القبر الذي أمامي؟ وضعت فيه حبيبا جميلاً، وجعلت التراب حدود عقلي، وحبست إدراكي على هذا الحجر. واعتصمت بك فهويت عليَّ. إن لم يكن للبكاء جدوى فكيف يسكت القلب اللجوج عن الشكوى؟ لماذا تئن الطيور في الأوكار؟ أليس لقلبي أغنية كهذه الأطيار؟
قالت لى يوما في اضطراب: جئت إلى الهند لأموت في اغتراب. فضحكت من قولها وتكلفت الثبات، ولكني أحسست أن قلبي قد مات. ثم ودعنا الهند بين الموت والحياة. جاوزنا القناة في غم وكرب، وليس القوت الا دم القلب. كلما سألت أجاب السعال الظالم. ذلك الجورب المظلم. حتى إذا لم يبق الا رمق، لاحت بيروت في الأفق. ومر يوم ولم أدر بما كان وسألتها فإذا النعش عِيَان.
النعش هذا الدليل دليل المقبر، النعش ذلك الهيكل الأغبر، النعش ذلك الخطيب الأصم الأبكم، النعش ذلك الهمود المجسَّم، النعش هذه السكتة المحيرة، النعش تلك المصيبة المكررة، النعش ذلك الانقلاب الصموت. ذلك الحدِّ المتحرك للعقل المبهوت. النعش خرابة الأمل الخامد، النعش ذلك الاغبرار الخالد. النعش ظل المحشر على الأكتاف، النعش ذلك الموت المتموج ألتفَّت على هذه الروح ألواحه ففتحت ذراعيَّ للموت. . . أيها التراب المضيء، تراب الحبيب الصامت! أيها النور الأسود الثابت! إن قلبي ليتحطم من جمودك، وان روحي لتموت من خمودك.
لا لا، ليس ترابا انه موت نابت. لا لا، ليس موتا انه جؤار صامت. لتحرس الملائكة هذا القبر ولتضيء عليه الثوابت.
ليس تراباً كله قبر الحبيب، أن له قبرا آخر من النسيان الرهيب. النسيان أسفل المقابر، النسيان مقتل الأكابر. وقبر آخر ذلك القلب الهباء فهو والتراب سواء. فالحبيب ذلك الملك المسافر، طائر بين هذه المقابر. . .