المحامي إلى آخر حدود الإرهاق ويتطلب فيه استعداداً خاصاً يرقى بالمران، وقد يصل بالمحامي النابغة إلى سماء كبار المخترعين، ولكن عمل القاضي إذ يجلس لتمييز الحق من الباطل لا يقل عن عمل زميله دقة وصعوبة.
إنه قبل كل شيء ناقد؛ والنقد يتطلب قدرة على فهم الرأي المعروض، ثم قوة على تحليله ورده إلى عناصره الأولية، ثم صحة نظر وسلامة تقدير يستطيع بهما الوقوع على الحقيقة وسط بحر زاخر من الآراء المتناقضة، وقد ينطوي كل منها على بعض الوجاهة.
جلس هنري الرابع ملك فرنسا العظيم يوماً ليفصل في قضية هامة بنفسه. وقام للمرافعة بين يديه اثنان من أعلام المحاماة في عصره، فأبدع كلاهما وأعجز إلى حد أن صاح الملك يائساً:(رباه! إن الخصمين على حق).
والخصمان في كثير من الأحوال على حق إلى حد ما. والصعوبة الكبرى، الصعوبة الهائلة، هي أن يتبين القاضي هذا الحد فيركز عليه حكمه. على أن مهمة القاضي وقد أصاب المحز لا تنتهي بإصابته، إذ عليه بعد ذلك أن يؤيد حكمه بقلمه.
وفي الحق إن الأمر ليس من السهولة بحيث يبدو. دعك من القضايا السهلة التي يزاحم فيها الحق البديهة ولا يتطلب إلا تقريره بكلمة قد يكفي فيها قلم كاتب الجلسة. ودعك من قاض يعتقد أن عبارة (حيث) تتقدم سطوراً جرى بها التقليد الراكد تكفي في إلباس رأيه ثوب الأحكام.
ليس هذه القضايا ولا ذلك القاضي نعني، وإنما نريد القضية العصية يتسابق فيها لسانان أو قلمان لعلمين من أعلام البيان. فيخضع كل منهما لرأيه طائفة من الحجج الدامغة والأدلة القوية. ويقف القاضي بين هذين السيلين فيصلا للملحمة، ثم يقول أخيراً كلمته الحاسمة. كيف يقولها؟ ليس القاضي بمحلف يكفيه أن يجيب بنعم أو لا.
كلا الخصمين - كاسب الدعوى وخاسرها - بل وجمهور الناس يتطلع إلى أسباب حكمه ليحكم له أو عليه. لذا وجب أن تكون هذه الأسباب مقنعة. وليس الإقناع في مكنتها إلا أن يكون كاتبها من المقدرة بحيث يستطيع أن يعالج بقلمه القضية من جميع نواحيها؛ يبين وقائعها بجلاء، ويستعرض مختلف الآراء فيها بدقة وإيجاز؛ يناهض ما يرى مناهضته ويؤيد ما يرى تأييده، ثم يقف عند الرأي الذي يعتقد صحته موقفاً له قوته وله جلاله.