للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وطعن كأن الطعن لاطعن عنده ... وضرب كأن النار من حره برد

إذا شئت خفت بي على كل سابح ... رجال كأن الموت في فمها شهد

وكان كثيراً ما يتجشم أسفاراً بعيدة أبعد من آماله ويمشي في مناكب الأرض ويطوي المناهل والمراحل ولا زاد إلا من ضرب الحراب على صفحة المحراب) اهـ.

هذه فيما نعتقد حقيقة حاله؛ فأما ادعاء النبوة فلا نستطيع أن نتقبله مهما زعم الناس أن العصر الذي عاش فيه ورغبته في أن يكون أبعد أهل عصره أملاً، وكثرة الدعوات الدينية والسياسية، كل أولئك تقرب إلى العقل أنه ادعى النبوة. نقول ذلك بعد علمنا تقدير الناس لمقام النبوة ورسوخ عقيدة الإسلام في أذهانهم، ومنها أن محمداً (ص) ختام الأنبياء حتى أن الدعوات الدينية التي ادعاها المدعون بعد ذلك لم تكن إلا في نواحي الإمامة وما يتصل بها. ونحن نرى كل هذه الدعوات كانت تستند إلى نصوص يزعم الراوون لها أنها صدرت عن رسول الله أو أفهام في نصوص أخرى ثابتة. ولو أن أبا الطيب كان قد ادعى النبوة لما وجد من الناس من ينتظر عليه حتى يتم دعواه. ولعله لم يكن من الحكمة في دعواه التي ارتضينا أمرها بحيث يخفي شأنه، فكان لذلك لا يأمن جانب أحد، وكان لا يدخل بلداً إلا ليقذف به إلى بلد، ثم كانت بعد ذلك نهايته المحتومة.

أبو الطيب والنحاة

ليس يسوغ لي في مستهل هذا البحث أن أغفل أن أبا الطيب كان قد أخذ من العربية بأوفر حظ؛ فهو حافظ لغريبها حفظ الباحث المستقصي حتى ليسأله أبو علي الفارسي: (كم لنا من الجموع على وزن فِعْلَى)؟ فيبادره بقوله (حِجْلى وظِرْبى) ويبحث أبو علي ليلته في كتب اللغة لعله يعثر لهما على ثالث فلا يجد. ويقول أبو علي في شأنه: (ما رأيت رجلاً في معناه مثله) وهذه الشهادة من أبي علي الذي كان يناصبه العداوة ويتحامل عليه كافية للدلالة على قدره؛ وكان مع اطلاعه على مفردات اللغة وغريبها عالماً بمواطن استعمالها متمكناً من قواعدها خبيراً بلغات القبائل. وله شعر جزل لا نظير له في شعر أحد من شعراء العربية. وقد خلا كثير من شعره من كل مأخذ وتجانب كل انتقاد، ولكن له مع ذلك شعراً قد جانب الطرق المشهورة في العربية إلى طرق لا يقرها النحاة الذين جعلوا مهمتهم تتبع المعروف الجاري على الألسنة ورسموه قواعد أرادوا أن تكون هي لسان الناس عامة؛ وإن

<<  <  ج:
ص:  >  >>