للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

يكن أحد قد نال من أبي الطيب في حياته وبعد موته منالاً له وجه صحيح وقد بقى أثره والدليل عليه فأولئك هم النحاة، ولسنا نعني بالنحاة علماء الأعراب فحسب، وإنما نريد بهم كل من كان يتكلم في فرع من فروع العربية؛ فهؤلاء هم الذين جرحوا عزة المتنبي وطامنوا من كبريائه؛ وهؤلاء هم الذين كان أبو الطيب يضيق بهم ذرعاً وتتألم نفسه إذا وجه واحد منهم خطابه إليه. وكيف لا يضيق صدره وشعره هو وسيلته التي يكتسب بها رضاء الناس وهم يعمدون إلى هذه الوسيلة فيضعفون من شأنها ويحاولون أن يقللوا من قيمتها. ولم يكن النحاة فيما نعتقد قد أكثروا من تعقبه والحملة عليه لوجه العلم ولا انتصاراً للحق، وإنما كان ذلك منهم سلاحاً من أسلحة السياسة التي وجهت إلى الرجل؛ وليس يعنينا بحث ذلك الآن ولكنا نذكر أنه - مع عدم توفر حسن النية - قد أمكن للنحاة أن يجدوا في شعر أبي الطيب ما يستمسكون به عليه ويتخذونه ذريعة للتشفي منه ولإرضاء سادتهم. وكانوا يجابهونه بذلك أحياناً؛ وكانت تأخذه العزة فيسب ويقذع في سبابه أحياناً شأن المغيظ المحنق الذي يداخله الشك في أمرهم؛ وكان ربما ضن عليهم بالإجابة فأحالهم على بعض أصدقائه من النحاة. حدثوا أن ابن خالويه وجه إلى أبي الطيب نقداً في حضرة سيف الدولة فقال له أبو الطيب: (أسكت ويحك فإنك أعجمي! فما لك وللعربية؟) وكان مع ابن خالويه مفتاح فضربه به فشج رأسه. وحدثوا أن سائلاً سأله عن قوله في مطلع قصيدة مدح بها أبا الفضل ابن العميد:

باد هواك صبرت أم لم تصبرا ... وبكاك إن لم يجر دمعك أو جرى

فقال له: كيف قلت لم تصبرا فقال: لو كان أبو الفتح حاضراً لأجاب، يريد أبا الفتح عثمان بن جني وكان صديقاً حميماً له. وبعض المآخذ التي أخذها عليه النحاة تافه أو لا وجه له كالذي حدثوا أن ابن خالويه سمعه ينشد سيف الدولة:

وفاؤكما كالربيع أشجاه طاسمه ... بأن تسعدا والدمع أشفاه ساجمه

فقال له: يا أبا الطيب إنما يقال شجاه بتوهمه فعلاً ماضياً. فقال له أبو الطيب: أسكت فما وصل الأمر إليك. يعني أنه أفعل تفضيل.

وبعض المآخذ التي أخذوها عليه صحيح لا شبهة في أنه أخطأ فيه الجادة كالتعقيد اللفظي والمعنوي، واستعمال الغريب الوحشي، والعدول عن سنن القياس، وقبح بعض المطالع،

<<  <  ج:
ص:  >  >>