وما فتئ صياد البحر الأحمر يتحدث إليك عن أسماك ذات أظلاف وشوارب أو شعور وصدر ناهد. وليس العهد ببعيد إن نشرت إحدى كبريات صحفنا صورة وحش بحري كبير لاصقة به سمكة صغيرة قيل عنها بأنها (تقوده لضعف بصره وتسعى لغذائه) وكأني بها تقود أوديب الأعمى خارج أسوار طيبة. ليس من العسير إذن أن نكون صورة عن رأى الناس في أعماق البحار وسكانها في أواخر القرن الثامن عشر. وبيننا من لا يزال يعتقد (بالنص سمكة والنص بنى آدم) و (الهايشة) وما إليها من مخلوقات تبتلع المدائن في لمحة البصر بلّه الآدميين. فإذا كانت استكشافات الملاحين في القرنين الرابع والخامس عشر قضت على خرافة (أقيانوس) المحيط (باويقومينا) المحيط المتفجر عيونا وغدرانا وانهارا. ورحلات الكابتن كوك في أواخر القرن الثامن عشر أثبتت أن لا وجود لقارة جنوبية تصل أفريقيا بآسيا وتجعل المحيط الهندي بحرا داخليا فقد لبث الناس حتى القرن الثامن عشر جاهلين بأعماق البحار سوى النزر اليسير.
قيل في موت ارسطا طاليس أنه ألقى بنفسه في دوامات مضيق أوريبوس يأساً من تفهم تيارات ذلك المضيق. وهو موت (غير قمين لا بفيلسوف ولا بعالم اقيانوغرافي). الا إننا أقرب إلى احترام الرجل الذي يحمله على الانتحار يأسه من تفسير ظاهرة طبيعية منا إلى احترام بلينيوس وهو يقول منذ نحو الف عام (أي وهرقليس لا يعيشن في البحر ولا في المحيط مهما عظما مخلوق ليس لنا به علم. بل الحق العجاب أننا أعرف بتلك المخلوقات التي غيبتها الطبيعة في الأعماق منا بأي أمر آخر). فهذا الغرور وتلك الحماقة من عالم كبير ينمان عن روح لم يسلم منها بعض العلماء وهي روح خطرة في العلم سيئة الأثر على تقدم العالم. فذاك البلينيوس وهو لم يصف سوى نيف ومائة نوع من الأحياء البحرية (أي أقل مما وصفه أرسطاطاليس قبله) يتمشدق بمعرفته جميع الأنواع التي تعيش في البحار. ما عساه قائل لو علم بالآلاف العديدة من تلك الأحياء التي كشف عنها علماء البحار بعده؟
لم ينتحر هؤلاء العلماء يأسا من تفهم المحيطات كما زعموا عن ارسطاطاليس. ولم تتملكهم صفاقة بلينيوس فيشيدوا بعلمهم الواسع العريض ولكنهم جهزوا البعثات الاستكشافية ورعوا البحار منذ القرن الماضي إلى اليوم، يخرجون منها عجائب ليست من (الاطلانطيس) ولا