فإن هذا الخجل الذي يزعمونه إنما هو من أباطيل الرواية، وقد أتى به القوم ليعضدوا قولهم في خرافة النبوة. وإذا كان أمر نبوته مشهوراً متعالماً أو كما يقول اللاذقي إن دعوته (قد عمت كل مدينة بالشام)، وقد بلغ من شهرتها أنه قبض عليه من أجلها بالشام أيضاً وحبس (دهراً طويلاً)، وأن له قرآناً أنزل عليه. . يزعم أبو علي بن حامد أن أهل الشام كانوا يحكون له سوراً منه كثيرة وأبو الطيب إذ ذاك بحلب، فكيف يُعقَل بعد هذه الشهرة أن يبتدر إليه هؤلاء فيسألونه عن حقيقة هذا اللَّقَب؟ إن السؤال عن (حقيقة اللقب) بعد هذه الشهرة التي يزعمونها ليدل دلالة قاطعة على وضع هذه الأحاديث المروية والأخبار المتداولة التي تهور كثير من الأدباء في التسليم بصحتها كما فعل الأخ سعيد. ولقد كان هؤلاء الذين يزعمون أنهم سألوا أبا الطيب عن حقيقة اللقب (المتنبي) يسألونه وهو بالشام، وفي الشام أظهر نبوته وفي الشام اشتهر أمره، وأكبر من ذلك أنهم يزعمون أنهم كتبوا عليه وثيقة أشهدوا عليه فيها ببطلان ما ادعاه ورجوعه إلى الإسلام وأنه تائب منه ولا يعاود مثله. فهلا كان الأولى بهم أن يظهروا على هذه الوثيقة ولما يمض عليها كثير دهر، وقد أخذها وال من الولاة فهي - ولا بد - محظوظة في ولايته. وكان أبو الطيب شجا في حلوق الأدباء والشعراء وكثير من أصحاب السلطان وهو في جوار سيف الدولة. وقد أوقعوا بينه وبين أميره بكل ما ملكوا من أسباب للوقيعة، أفتظن أنهم كانوا يحجمون عن إظهار هذه الوثيقة، وإحراجه بها، والعمل بها على تحقيره، ثم على المنافرة بينه وبين سيف الدولة!! كانت كل هذه النقائض بالشام، ومع ذلك لم يكن من أثرها إلا هذه الروايات الضعيفة التي تحمل ألفاظها الشكوك والريب.
وأسخف من هذه الرواية رواية من يروي أنه كان يعمد إلى التمويه على الناس بقوله: إن هذا اللقب (المتنبيّ) مشتقٌّ من النبوة، فليس يعقل أن أبا الطيب - وهو يعلم أن نبوته كانت مشهورة كما ذكر الرواة - يعمد إلى هذا التوجيه الضعيف الميت، وهو يعلم أنه كاذب، وأن الناس مكذبوه لأنهم يعلمون حقيقة الأمر.
واعتذاره بأنه يكره التلقب به، وأنه يدعوه به من يريد الغض منه فهو بسبيلٍ من ذلك في الضعف والسخف. على أنه مع ذلك لا يدلُّ دلالة ما على حدوث النبوة التي يزعمونها، بل على العكس من ذلك. . . إنه ليَدلُّ على أن هذا اللقب مفتعل موضوع للكيد لَهُ والغض منه،