أحمد على كتفيها يحاول رؤية مصدر الصوت من فرجة الباب، وارتسم الذهول على وجه فاطمة واستولى على ثلاثتهم الصمت، ولم ينتبهوا إلا على صوت العمدة وهو يحدث (ألبك) عندما هما بمغادرة الغرفة لتناول الغداء، والتفت العمدة إلى زينب فنهرها وأمرها بأخذ أخويها والرجوع إلى المنزل حتى لا تقلق أمهم.
في هذا المساء لم تنهض فاطمة لمناولة والدها الأرغول، ولم يتأهب أحمد للرقص وارتسم الوجوم على وجوه الجميع، وفقدت تلك الفرقة الساذجة الانسجام والتجانس، فرفع الشيخ يده وتناول الأرغول، ولكن الأولاد نفروا واستنكروا هذا الصوت، وفزعت زينب من نقرات أمها على الآنية النحاسية وملكها الحياء فلم تعد تغني، وكيف تغني بعد أن سمعت (اللي حبِّك يا هناه!).
لم يعرف الرجل حلاً لهذه المشكلة ولم يقو على فهم الدافع الذي ألح على زينب فحال بينها وبين مشاركته في الغناء فتحول عنها إلى أخويها وأومأ إليهما أن يأخذا بنصيبهما، ولكن فاطمة فأفأت لتعبر عن تأففها وتأتأ أحمد ففهم الشيخ السر. . .!! قرأ لغتهما المضطربة ذلك اللغز الذي أفسد حياته وذهب بسعادته.
وحار الشيخ في الأمر. لقد سمع هو أيضاً وسمعت أمهم ولكنهما لم يتأثرا، وأدرك بفطرته أن الصغار على استعداد للتمرد والثورة. . . أدرك الشيخ أنه ناضل نفسه لأنه آمن بأنه المغلوب إذا التمس السبيل إلى حياة الترف فآثر أن يكبح جماح نفسه ويعيش بأحلامه، وأدرك أن صغاره قد بهرهم النور وأن بريقه الساطع قد ألهب في قلوبهم ناراً فثاروا على حياتهم المظلمة. . . فلم يملك إلا التنهد العميق. . . وأراد أن يلعن ذلك اليوم الذي جاء فيه (ألبك) إلى القرية، ولكن الكلام مات على شفتيه. . .
ولأول مرة تراقصت الدموع في عيني الشيخ وعز على الأم أن ترى هذا المشهد الذي لم تدرك سببه، فهزت الأولاد وحاولت أن تدفعهم إلى المرح، ولكن ذلك كان عبثاً، فرمى الشيخ أرغوله وتمدد على فراشه يبكي سعادته الهاربة. . .
ونهضت زينب فغادرت أخويها وهي تقلب بصرها فيما حولها من القذارة وتقارن بين ما ترى وبين الأثاث الثمين والصور الجميلة والموسيقى الرائعة الحنون، وكانت تود لو أن حياتها كلها نهار حتى لا تقع عينها على منزلها هذا الذي صار كل ما فيه يجلب إلى نفسها