لا يهولنك ما أقرر لك من أن القبعة الأوربية على رأس المسلم المصري تهتك أخلاقي أو سياسي أو ديني أو من هذه كلها معاً، فإنك لتعلم أن الذين لبسوها لم يلبسوها إلا منذ قريب بعد أن تهتكت الأخلاق الشرقية الكريمة وتحلل أكثر عقدها، وبعد ن قاربت الحرية العصرية بين النقائض حتى كادت تختلط الحدود اللغوية، فحرية المنفعة مثلاً تجعل الصادق والكاذب بمعنى واحد، فلا يقال إلا أنه وجد منفعته فصدق، ووجد منفعته فكذب؛ وعند الحرية العصرية أنه ما فرَّق بين اللفظين وجعل لكل منهما حدوداً إلا جهل القدماء وفضيلة القدماء ودين القدماء. وهذه الثلاثة: الجهل والفضيلة والدين هي أيضاً في المعجم اللغوي والفلسفي الجديد مترادفات لمعنى واحد هو الاستعباد أو الوهم أو الخرافة.
ومتى أزيلت الحدود بين المعاني كان طبيعياً أن يلتبس شيء بشيء وأن يحلَّ معنى في موضع معنى غيره، وأصبح الباطل باطلا بسبب وحقاً بسبب آخر، فلا يحكم لناس إلا مجموعة من الأخلاق المتنافرة تجعل كلَّ حقيقة في الأرض شبهة مزورة عند من لا تكون من أهوائه ونزعاته، فيحتاج الناس بالضرورة إلى قوة تفصل بينهم فصلاً مسلحاً، فيكسبون القانون بمدنيتهم قوة همجية تضطره أن يعد للوحشية الإنسانية، وتدفع هذه الوحشية أن تعد له.
ومن اختلاط الحدود تجيء القبعة على رأس المسلم، وما هي إلا حد يطمس حداً، وفكرة تهزم فكرة، ورذيلة تقول لفضيلة: هأنذي قد جئت فاذهبي.
ما هو الأكبر من شيئين لا حد بينهما لتعيين الصِّفر، وما هو الأصغر من شيئين لا حدَّ بينهما لتعيين الكبر؟ إنها الفوضى كما ترى ما دام الحدُّ لا موضع له في التمييز ولا مقرَّ له في العُرف ولا فصل به في العادة؛ ومن هنا كان الدين عند أقوام أكبر كلمات الإنسانية في عامة لغاتها وأملها بالمعنى، وكان عند آخرين أصغرها وأفرغها من المعنى؛ وما كبر عند أولئك إلا من أنه يسع الاجتماع الإنساني وهو محدود بغاياته العليا، وما صغر عند هؤلاء إلا بأن الاجتماع لا يسعه فلا حدَّ له، وكأنه معنى متوهَّم لا وجود له إلا في أحرف كلمته.
فجماعة القبعة لا يرون لأنفسهم حداً يحدونها به من أخلاقنا أو ديننا أو شرقيتنا، وقد مرقوا من كل ذلك وأصبحوا لا يرون في زيّنا الوطني ما فيه من قوة السر الخفي الذي يُلهمنا ما أودعه التاريخ من قوميتنا ومعاني أسلافنا.