وفصاحة لسانه من أن يرجع كثيرا منهم ويذمرهم ويثير فيهم الحماسة حتى التف حوله عدد عظيم ممن كان انهزم من الميمنة. فعطف بهم إلى القتال فأدرك عبد الله بن بديل وهو بآخر رمق من الجهد يقاتل مع أصحابه القلائل المستميتين. فأعاد الكفة إلى الرجحان وما زال يقاتل حتى صار القتال متكافئا بين الفريقين، ولما رأى علي ذلك عاد إلى الميمنة وجعل يشجعهم ويذمرهم.
وأقبل الليل والكفتان متراجحتان بعد، ولم يشأ أحد من الفريقين أن يقف القتال أثناء الليل إذ كان كل منهما يعض على النواجذ من أجل النصر.
وأصبح الصباح فإذا بجنود علي في الميمنة لا يزالون منتصرين مع الأشتر النخعي حتى صرعوا صفوف المعقلين الذين التفوا حول معاوية وقد بايعوه على الموت وعقلوا أنفسهم بالعمائم حتى لا يستطيعوا الانصراف من حوله، وكانت الميسرة كذلك منتصرة قد أوشكت أن تبلغ إلى قلب جيش معاوية وجعلته يفكر في الفرار، وفيما كان الأمر على ذلك ارتفعت صيحة من ميمنة جيش معاوية وما زالت تتزايد حتى بلغت ميسرة جيش علي، فإذا الصيحة ترتفع فيها حتى تبلغ عليا ويأخذ قواده في المجادلة فيما بينهم، ثم تنتقل المجادلة حتى تصبح بينهم وبين الخليفة. وتلك هي صيحة تحكيم القرآن إذ رفع جند الشام المصاحف على الرماح وقالوا:(قفوا تلك الحرب الطاحنة، إلى متى يتطاحن المسلمون؟ لقد قرب المسلمون من التفاني. ومن يكون لحرب الفرس ومن يكون لحرب الروم إذا نحن تفانينا وقتل بعضنا بعضا؟)
تردد عليّ في وقف الحرب وعلم أن تلك خدعة لجأ إليها عدوه عندما رأى كفة النصر تنصرف عنه. ولكن بعض قواده هدده بالثورة عليه. وكان أشدهم في ذلك الأشعث بن قيس صاحب الانتصار العظيم يوم الشريعة. فاضطر علي أن يبعث إلى ميمنته المنتصرة لوقف الحرب. وتردد الأشتر في ترك الحرب وقد وشك أن ينتصر. فأعاد الإمام أمره إلى الأشتر بوقف الحرب وأفضى اليه بنبأ ثورة قواد ميسرته، فاضطر إلى أن يرفع يده وعاد إلى علي محنقا ثائرا ساخطا على إفلات النصر من يده وكان قد ظنه قريبا.
ولم يمض بعد ذلك زمن طويل حتى كتبت صحيفة التحكيم وانصرف الجيشان أولهما إلى الشام وهم فرحون اذ أفلتوا من هزيمة محقة، وثانيهما إلى العراق وهم يتلاومون ويتجادلون