قال لي أبي، فأما أنا فسألته بالأهواز عن معنى المتنبي، لأني أردت أن أسمع منه هل تنبأ أولاً، فجاوبني بجواب مغالط، وقال: إن هذا شيء كان في الحداثة، فاستحييت أن أستقصي عليه وأمسكت) وهذا نَصٌّ قد اختصره ابن الأنباري على عادته. وجاء الأستاذ سعيد فأراد أن يبين وجه المغالطة في الجواب، فزعم أن أبا الطيب يعني التلقيب لا التنبؤ في جوابه. وكان أولى بالأستاذ قبل أن يؤول الكلام على هذا الوجه أن يتدبر القول وينظر فيه على الصورة التي يؤوله بها، ثم يبين وجه المغالطة بياناً لا يسقطه العقل. . . يقول التنوخي إنه سأل أبا الطيب عن معنى (المتنبي) ليسمعَ منه هل تنبأ أولاً - أي هل كان اللقب لحادث نبوة كانت منه أم هو نَبْزٌ به ولُقِّب - فيجيبه أبو الطيب:(إن هذا التلقيب كان في الحداثة) فأي المغالطة في هذا الجواب! وفي المسألة وجهان: إما أن يكون التنوخي قد سأل أبا الطيب مصرحاً بالذي أراده فقال له: هل ادعيت فسميت المتنبي فيقول أبو الطيب (هذا شيء كان في الحداثة) فيكون المراد (النبوّة) ولا شك، وإما أن يكون قد سأله عن علة تلقيبه بالمتنبي، فيقول:(هذا شيء كان في الحداثة) فيكون جواب رجل لا يحب أن يمتد في الحديث فهو يقطعه على سائله، فهو يقول له: إن هذا اللقب وسببه كانا في الحداثة ولست براض عن سؤالك؛ فليس في هذا مغالطة. ثم إن امتناعه عن ذكر علة غير النبوة في سبب التسمية دليل على أن النبوة هي العلة في التلقيب، لأن اللفظ صريح في الدلالة على المعنى. وليس يغفُلُ أبو الطيب عن معنى هذا اللقب، ولا يظن أن الناس غافلون عنه، فيكون امتناعه عن ذكر العلة مما يوقعهم في حيرة من تأويل معناه. ثم ما الذي يضر أبا الطيب لو كان هذا التلقيب في الكبر ولم يكن في الحداثة؟ فحرصه على تخصيص ما أراد من المعنى بالحداثة ينفي إرادة (التلقيب) البتة. وأولى حين يكون التخصيص بالحداثة أن يراد بذلك النبوة، فإن قوة التدفع، وسمو الطموح، وإشراف النفس، وتهاويل الأمل، هي بالحداثة ألزم، وهي التي تورث نيران الشباب فتدفعه إلى المغامرة والتهدر والمخاطرة على غير هدى ولا بصيرة، حتى يركب بها صاحبها الحدَثُ الغرُ مركب من الحماقة، ويرد بها كل مورد من الغرور، فلا يرعوي عن أن يدعي مالا مطمَع له ولو كانَ النبوّة. وقول التنوخي بعد جواب أبي الطيب:(فاستحييت أن أستعصي عليه فأمسكت) دليل على أن الرجل اكتفى بإشارة أبي الطيب إلى حادث النبوة، وأمسك عن الذي كان يريده أولاً من