للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الرجل كان بريئاً مما افتروا عليه، وإنما كان حراً في عقيدته، مستقلاً في رأيه، غير فان في شخصيته أحد، ولا واقع تحت سلطان حزب من الأحزاب؛ ولذلك كنت تراه تارة يؤيد بيتر، وطوراً يؤيد جيزو على بعد الشقة بين السياستين، ولم يكن يأخذ عليه المنصفون شيئاً لأن الرجل جعل قبلته الحق ومصلحة الوطن.

وإذا كانت الخطابة سلاح المعارضة في الهجوم، فهي كذلك سلاح الأغلبية في الدفاع؛ وليس أمتع من قراءة الخطب التي يلقيها مصاقع الخطباء البرلمانيين في الغرب كرّاً وفرّا وهجوماً ودفاعاً، ناهيك بسماعها! وهل أروع وأبدع من قراءة خطب بت وفوكس ودزرائيلي وجلادستون ولويد جورج وبريان وفيفياني وجوريس؟ كان عام ١٩٠٦ أول عهد كليمنصو بالدخول في الوزارة؛ ولطالما مزق النمر الفرنسي وهو في المعارضة خصومه تمزيقاً؛ وأصبح وزيراً للداخلية وأمست سياسته حيال العمال المضربين هدفاً يصوب إليه الحملات جماعة الاشتراكيين، وعلى رأسهم جوريس، وجوريس مدره مفوه؛ بل لقد ذهب بعض المؤرخين إلى اعتباره أعظم خطيب في القرن التاسع عشر في أوربا بأسرها. ووقف كليمنصو في وجه العاصفة الاشتراكية لا يجد الروع سبيلاً إلى قلبه. ثم صاح صيحته: (لقد لمست في الحال أن الحملة تنطوي على الرغبة في ذبحي على مذبح الاشتراكية، لكن وا أسفاه! فأني لست من تلك الضحايا المستسلمة، المستعدة لتقديم أعناقها البريئة طائعة إلى سكين القصاب. إني لأقاوم وأقاتل. إني لأصيح وأتمرد، وما حفزني إلى اعتلاء المنبر إلا الرغبة في إرسال صيحة الاحتجاج).

والمؤتمرات السياسية وغيرها هي الأخرى مجال فسيح لظهور المواهب الخطابية.

على أني أحب ألا يفهم أن قولي ينصب على الخطابة السياسية، والخطابة السياسية وحدها، ففي دور القضاء تتجلى الخطابة القضائية؛ وترى بين المحامين وأصحاب الدعوى العمومية والجالسين في كراسي الاتهام الخطباء المصاقع وأمراء الكلام، لكن لا ينبغي أن ننسى أن لون البلاغة السياسية يفترق عن لون البلاغة القضائية وإن كانا يتفقان في الغاية وهي الوصول إلى مكان الإقناع من النفوس. ومن الطبيعي أن تختلف هذه عن تلك، فالجمهور غير الجمهور والبيئة ليست هذه البيئة. وفارق بعيد بين أن تخاطب قضاة مرنوا على سماع مختلف الكلام حتى لا يخدعوا بالمزوق المنمق منه وبين جمهور محدود

<<  <  ج:
ص:  >  >>