للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وقالت زليا: هو ذا بيانو وسيعزف عليه مارسل. فحدجها هذا بنظرة غضب قاسية وقال: إنك تعلمين أنني لا أكاد أعرف عزفاً، وأن ليس سواك من يستطيع أن يلاعب أصابع العاج؛ ولو كنت طلبت ذلك من أوجين لسقطت على الخبير ولكني لا أريد إزعاجه.

فاحمر وجه أوجين وانسل بكياسة فجلس إلى البيانو وأخذ يعزف فابتدأ الرقص، ولكنه لم ينته إلا بعد أمد طويل إذ جعل القوم ينتقلون من رقص إلى رقص دون كلال أو ملال، وأنهك السهر والصياح أعصاب أوجين فاستولى عليه النعاس ولكنه استمر يعزف بصورة آلية كالفارس النائم على فرسه، وكانت الراقصات تمررن من أمامه كأشباح في الحلم. ولا مرية في أن الحزن يستولي على من يرى غيره يضحك بمعزل عنه، وكذلك عاودت أوجين بلابله ووساوسه فجعل يناجي نفسه:

هذا لعمري سرور من حزن واغتباط من بؤس، وإنها لحظات يخيل إلى أنها اختلست من أوقات الشقاء. ومن يدري أي واحد من هؤلاء الخمسة لديه ما يسد به رمقه غداً؟!

وبينا هو غارق في لجة أفكاره وهواجسه مرت بقربه الآنسة بنسون وخيل إليه أنها اختلست قطعة الحلوى من الخوان ودستها في جيبها.

- ٥ -

وانبلج الصباح فانفض السامر وتفرق السمار، ومضى أوجين يدلف في الدروب والسكك يستنشق نسيم الصباح العليل وهو ممعن في خوض عيلم من أفكاره السوداء وصار يردد على رغمه:

(ليس لميمي غير ثوب واحد وقبعة). ويتساءل: - هل تدفع التعاسة الإنسان إلى التظاهر بالجذل والسخر من البؤس؟ وهل يفتر ثغر جائع عن ابتسامة!. . .

وكان يعتاده الأسى إذا ما ذكر أمر اختلاس الحلوى فيهتز حنواً ورحمة ويقلب الأمر ظهراً لبطن ويقول:

- ترى لم سرقت الحلوى ولم تسرق الخبز!. . . ثم لا يلبث أن يلتمس لها عذراً.

لم ينتبه أوجين ليرى أين طاحت به قدماه، فدخل اتفاقاً بعض المنعطفات التي أدت به إلى أزقة ضيقة، فلما تبين ذلك عاد أدراجه فرأى امرأة هزيلة صفراء الوجه شعثاء الشعر أطمارها بالية خرجت من دار قديمة، وقد بدا عليها السقام واصطكت ركبتاها حتى لم تكد

<<  <  ج:
ص:  >  >>