ثم قال: انطلقْ بنا فتراها حتى تعلم منها علماً فهي في ذلك المسرح، هي في ذلك الشر، هي في تلك الظلمات، هي كاللؤلؤة لا تتربى لؤلؤةً إلا في أعماق بحر.
وذهبنا إلى مسرح يقوم في حديقة غنَّاءَ مترامية الجهات بعيدة الأطراف تظهر تحت الليل من ظلماتها وأنوارها كأنها مثقلةٌ بمعاني الهجر والعشق.
وتقدَّمَنا نسير في الغبش، فقال صاحبنا المحب: إني لأشعر أن الظلام هنا حيٌّ كأن فيه غوامض قلب كبير فما أرى فرقاً بين أن أجلس فيه وبين الجلوس إلى فيلسوف عظيم مهموم بهمِّ اللانهاية. فتعال نبرز إلى ذلك النور حول المسرح لنراها وهي مقبلة فأن رؤيتها سيدةً غير رؤيتها راقصة، ولهذه جمالُ فن ولتلك فنُّ جمال.
ولم نلبث إلا يسيرا حتى وافتْ، ورأيتها تمشي مشية الخفرات كأنها تحترم أفكار الناس، يزهوها على ذلك إحساسٌ نبيل كإحساس الملكة الشاعرة بمحبة شعبها. وانتفض مجنوننا وأغمض عينيه كأنها تمر بين ذراعيه لا في طريقها، وكأن لذة قربها منه هي الممكن الذي لا يمكن غيره.
وكان عجيباً من العجب أن تحرك الهواء في الحديقة واضطربت أشجارها فقال: أنت ترى. فهذا احتجاج من راقصات الطبيعة على دخول هذه الراقصة. قلت: آه يا صديقي؛ إن المرأة لا تكون امرأة بمعانيها إلا إذا وجدت في جو قلب يعشقها.
ونفذنا إلى المسرح وتحرَّى صاحبنا موضعاً يكون فيه منظر العين من صاحبته ويكون مستخفياً منها. ثم رُفع الستار عنها بين اثنتين يكتنفانها، وقد لبسن ثلاثتهن أثواب الريفيات وظهرن كهيئتهن حين يجنين القطن.
وبرزت (تلك) في ثوب من الحرير الأسود وهي بيضاء بياض القمر حين يتم، وقد شدَّت وسطها بمشيدة من الحرير الأحمر فتحبكت بها وظهرت شيئين: أعلى وأسفل، ثم ألقت على شعرها الذهبي قلنسوة حمراء من ذلك الحرير أمالتها جانباً فحبست شيئاً منه وأظهرت سائره. وأخذت بيدها صفَّاقتين وأقبل الثلاث يرقصن ويغنين نشيد الفلاحة.
لم أنظر إلى غيرها فقد كانت صاحبتاها دليلين على جمالها لا أكثر ولا أقل. وما أحسب الحرير الأحمر كان معها أحمر ولا الأسود كان عليها أسود، ولا لون الذهب في معصمها كان لون الذهب. كلاَّ كلاَّ هذه ألوان فوق الطبيعة لأن ذلك الوجه يشرق عليها بالجمال