فَلوْ جزيناكِ بالأرواحِ غاليةً ... عن طيبِ مسراكِ لم تنهَضْ جوازينا
هل من ذيولك مِسكيٌّ نحمِّلُه ... غرائبَ الشوقِ وشياً من أمالينا
إلى الذين وجدنا وُدَّ غيرهمو ... دُنيا ووُدَّهمُ الصافي هو الدِّينا
إن ابن زيدون لم يزد على أن قال: (يا نسيمَ الصِّبا)، وهو تعبير ورد في مئات القصائد، أما شوقي فراح يَفتنُّ افتناناً يدل على قوة الشاعرية، وبراعة الخيال، فوصف النسمة بأنها معطرة الوادي، وأنها سارت في السحَر فطاب بمسراها كلُّ مرمىً سحيق، وأنها ذكيةُ الذيل كأنها قميص يوسف، وأنها جشِمت شوك السرى حتى أتت بالورد مجسماً في رسائل، وأتت بالريَّا مُمثَّلةً في عناوين، وشكر لها النُّعمى فقال:
فَلوْ جَزَيناكِ بالأرْوَاحِ غالِيَةً ... عن طيبِ مسراكِ لم تنهض جَوَازينا
وابن زيدون يقول: (بلِّغ تحياتنا) وهي عبارة جافيةٌ، لأنها وردت في صورة الأمر، أما شوقي فيترفق، ويقول:
هل من ذيولك مِسكيٌّ نحمِّلُه ... غرائبَ الشوقِ وشياً من أمالينا
وابن زيدون يصف أحبابه بالقدرة على إحيائه لو أسعفوه بتحية، وشوقي يجعل كل هوى غير هوى أحبابه بمصر صورة من الدنيا، أما هوى أحبابه الذين يتشوق إليهم فهو في صفاء الدِّين
ولا ننكر أن أخيلة شوقي مقتبس من ابن زيدون، فقول شوقي:
ياساريَ البرقِ يرمي عن جواِنحنا ... بعد الهدوءِ ويهمي عن مآقينا
اختلس برفق وحذق من قول ابن زيدون:
بنتم وبنَّا فما ابتلَّت جوانحُنا ... شوقاً إليكم ولا جفَّت مآقينا
والمعنى الذي عرضه ابن زيدون في ثلاثة أبيات بسطه شوقي في ثمانية عشر بيتاً، وإنما اتفق له ذلك لأنه كان يعارض ابن زيدون، فكان لابدَّ له من توشيةٍ بارعة تُعَفِّ على النظرة الفطرية في أبيات ابن زيدون، ولابن زيدون فضل السبق، ولشوقي فضل البراعة في تلوين الصور الشعرية، وهو فضل ليس بالقليل.
وأراد ابن زيدون أن يتذكر أيام الأنس فقال:
حالت لفَقْدِكُمو أيامُنا فغدت ... سُوداً وكانت بكم بيضاً ليالينا