إذ جانِبُ العيش طلق من تألُّفنا ... ومربع اللهو صافٍ من تصافينا
وإذ هصرنا فُنون الوصل دانية ... قُطُوفُهُ فجنينا منه ما شِينا
ليُسق عهدُكُمُ عهد السرور فما ... كُنتم لأرواحنا إلا رَياحِينا
وهذا شعرٌ صافي الديباجة، رائع المعاني، ولكن انظروا كيف عارضه شوقي فجمع بين الأسى والفخر حين قال:
سقياً لِعَهدٍ كأكنافِ الرُّبا رِفَةً ... أنَّى ذَهبنا وأعْطَافِ الصِّبا لينا
إذ الزَّمانُ بِنا غَيْناءُ زاهيةٌ ... ترِفُّ أوقاتُنَا فيها رَياحينا
الوصلُ صافيةٌ والعيشُ نافيةٌ ... والسعدُ حاشيةٌ والدهر ماشينا
والشمسُ تختالُ في العِقْيانِ تحسَبُها ... بَلْقيسَ تَرْفُلُ في وشي اليمانينا
والنيل يُقبلُ كالدنيا إذا احتفلت ... لو كان فيها وفاءٌ للمصافينا
والسعد لو دام والدنيا لو اطردت ... والسيل لو عفَّ والمقدار لو دِينا
ألقى على الأرضِ حتى ردّها ذهباً ... ماءً لَمسنا به الإكسير أو طينا
أعداءُ من يُمنِهِ (التابُوتُ) وارْتسمتْ ... على جَوانبهِ الأنوَارُ مِنْ سينا
له مبالغُ ما في الخُلقِ من كرم ... عهدُ الكرام وميثاق الوفيِّينا
لم يجر للدهرِ إعذارٌ ولا عُرُسٌ ... إلاَّ بأيامنا أوْ في ليالينا
ولا حوى السعدُ أطغى في أعنته ... منَّا جياداً ولا أرخى ميادينا
نحنُ اليواقيتُ خاضَ النارَ جَوهَرُنا ... وَلم يَهنْ بيدِ التشتيت غالينا
ولا يَحولُ لنا صبغ ولا خلق ... إذا تلوَّن كالحرباءِ شانينا
والقارئ حين يوازن بين هاتين القطعتين لا يدري أيهما أجود، لأن ابن زيدون على قصر نفسه في هذا الشوط بلغ غاية الرشاقة حين قال:
وإذا هصرنا فنون الأنس دانية ... قطفه فجنينا منه ما شينا
وبلغ غاية الدقة حين قال:
إذ جانب العيش طلق من تألفنا ... مورد اللهو صاف من تصافينا
والدقة في هذا البيت تؤخذ من صدق التعليل، فالعيش لم تتسع جوانبه إلا بفضل التألف، تألف القلبين، واللهو لم يصف مورده إلا بفضل التصافي، تصافي الحبيبين، والدنيا لا كدر