فيها ولا صفاء، وإنما تصفو حين تصفو النفوس، وتقسو حين تقسو القلوب، فالزهر الذي يبسم لك لا يبسم لك وحدك، وإنما تراه يخصك بالرفق لأن الدنيا صفت لك، وقد يراه غيرك في ابتسامه صورة من صور العبوس، والنهر الذي تنظر إليه في الليالي المقمرة فتراه عاشقاً يغازل القمر ويتلقى دعابته في حنان، هذا النهر لا يتمثل لك كذلك إلا لأنك تشاهد أمواجه الفضية بقلب مرح وحس طروب، وهو نفسه قد يبدو للمحزون صورة من صور الاكتئاب.
ويروقنا قول شوقي:
سقياً لِعَهدٍ كأكنافِ الرُّبا رِفَةً ... أنَّى ذَهبنا وأعْطَافِ الصِّبا لينا
إذ الزَّمانُ بِنا غَيْناءُ زاهيةٌ ... ترِفُّ أوقاتُنَا فيها رَياحينا
الوصلُ صافيةٌ والعيشُ نافيةٌ ... والسعدُ حاشيةٌ والدهر ماشينا
والنيل يُقبلُ كالدنيا إذا احتفلت ... لو كان فيها وفاءٌ للمصافينا
يروقنا هذا الشعر، لأن الشاعر جعل عهده في نضرة الزهر الذي يتفتح في أكناف الربوات، ولأنه رأى اللِّين في أيام الأنس شبيهاً باللين في أعطاف الصبا، وأعطاف الصبا جوهرٌ نبيل لا يعرف طيب لينها إلا شاعر أمكنته من أعطاف الصبا سَورَةُ الصبوات، ويروقنا أيضاً لطرافة هذا الخيال:
(ترف أوقاتنا فيها رياحينا)
ورفيف الأوقات معنى يعرفه العشاق الذين دار بهم الزمن في أرجوحة اللهو الجموح.
ويروقنا هذا الشعر مرة ثالثة لأن الشاعر يرى إقبال النيل كالدنيا حين تحتفل، وانظروا كيف تكون الدنيا حين تحتفل، ثم تأملوا روعة هذا الاستدراك:
(لو كان فيها وفاء للمصافينا)
ولكن هذه الطرافة في أخيلة شوقي لا تنسينا براعة ابن زيدون حين جعل محبوبته كل شيء حين قال:
يا روضة طالما أجنت لواحظنا ... ورداً جلاء الصبا غضاً ونسرينا
ويا حياة تملينا بزهرتها ... منىً ضروباً ولذاتٍ أفانينا
ويا نعيماً خطرنا من نضارته ... في وشي نعمى سحبنا ذيله حينا