قد يبدو لها أحياناً أن تكايد الناس فتنشئ من الحسن في حي بولاق ما تغيظ به الناعمين في حي القصر العالي، ولكنها لا تفلح، فالجمال الذي ينبت في البيئات السوقية يظل سوقي الشمائل والنوازع، أما الجمال الذي يفتح في البيئات المنعمة فيظل ملحوظ المشارب والميول.
فمعشوقة ابن زيدون ربيبة ملك، وربيبة الملك تألف السيطرة منذ أيام المهد، ويظل دلالها طول الحياة دلالاً سماوياً يأخذ فيضه من قوة الطبع، لا من لؤم التمنع، وينزل رضاها على القلب نزول الطل على الريحان. وابن زيدون يتمثل محبوبته خلقت من المسك، ويرى الناس ما عداها خلقوا من طين، وكلمة (طين) وقعت قبيحة في شعر ابن زيدون، إلا أن يكون أراد الإشارة إلى بعض الناس؛ والمرء حين يغضب يرى الناس خلقوا من طين، وإن كان الطين أشرف من بعض من نرى من المخلوقات؛ والطين تربة يحيا بها الزهر ويتغذى منها الشوك، وفوقه تتخطر الظباء، وعليه تزحف الأفاعي والصلال.
وبلغ ابن زيدون نهاية الترفق حين قال:
إذا تأوَّد آدته رفاهية ... توم العقود وأدمته البرى لينا
والجمال الذي تؤذيه العقود والدمالج والأساور والخلاخيل جمال غض رقيق يشبه في رقته نواظر العيون، ولفائف القلوب، وهذا الجمال منثور في المدائن نثر الزهر واللؤلؤ، ولولا وجوده في هذه الدنيا لما عرف شاعر قيمة النعمة العظيمة، نعمة البصر والحس والذوق، لولا الجمال المنعم المصون الذي لا يطمع في تفيء ظلاله غبي ولا لئيم لأقفرت الدنيا من الشعر وخلت من الأنفاس العطرة، أنفاس الشعراء؛ لولا الجمال المنعم المصون الذي لا يطمع في تفئ ظلاله غبي ولا لئيم لما استطاب شاعر سهر الليل، وألم الجفون. وهل يعني القلب في سبيل الجمال المبتذل الذي ترنو إليه جميع العيون؟ إن الجمال المبتذل شبيه بالكوكب المتهالك الذي لا تألم من النظر إليه عين رمداء، أما الجمال المنعم المصون فشبيه بالشمس لا يقوى على النظر إليه إلا الفحول من الشعراء، والأقطاب من الكتاب، هو الجمال الفرد؛ ولا يصاوله إلا الرجل الفرد، وإن كان يتواضع فيقول:
ما ضرَّ أن لم نكن أكفاءه شرفاً ... وفي المودة كافٍ من تكافينا
هذا تواضع، فإن جوهر الحب في قلب الشاعر أنفس من جوهر الحسن في وجه الجميل.