للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

من دون ذينك الشاعرين اللذين احتذوهما. فلا يهتم بآثارهم اليوم إلا مؤرخ الأدب المدقق المستقصي.

وفي تاريخ الأدب العربي شخصيات مستقلة واضحة متميزة، مخالفة كل منها للأخريات قولا وخلقا وأسلوبا، كالمعري الحكيم المشفق على أمة الطير والحيوان، المعنى بتنازع البقاء وبغي الأحياء، والمتنبي الطموح (المتعاطي للكبر وعلو الهمة) كما قال بعض معاصريه؛ وابن الرومي المشغوف بالجمال الطبيعي والإنساني، المنهوم بنعيم الحياة ولذاتها، الدقيق النظرة، الرائع التصوير؛ وأبي نواس الماجن المستهتر؛ والجاحظ الموكل بفنون الثقافة؛ وبديع الزمان المعتد بنفسه، الحريص على المادة المكاثر بثروته اللغوية ومهارته الصناعية، السهل الديباجة، الرائق الفكاهة. كل هاتيك شخصيات بارزة متميزة.

ولكن بجانب أمثال أولئك حفل كبير من مشهوري الأدباء الذين آتتنا آثارهم وانحدرت إلينا بعض أخبارهم، ولكن شخصياتهم مبهمة مطموسة، يكتنفها الضباب ولا يستجليها الخيال، وتتشابه كثيرا حتى لنضيف آثار بعضها الأدبية إلى آثار الأخرى فلا ترى فارقا، ولا تحس مانعا يحول دون ذلك من تباين الأساليب أو اختلاف النفسيات أو تضاد النزعات؛ بل إن شخصيات بعض من تقدم ذكرهم من فحول العربية، على كثر ما وصل إلينا من كتاباتهم وأخبارهم، مبهمة في كثير من نواحيها.

ولا ريب أن لطول العهد وكر الزمن أثرا كبيرا في تبديد الآثار، وتغيير الأفكار والمشارب والأذواق، وإحاطة شخصيات المتقدمين بغمام من الغموض والغرابة مهما تحدث الشعراء بذكر الخلود؛ ولكن هناك عدا هذا عوامل لابست الأدب العربي فأدت إلى غموض كثير من شخصيات كثير من أعلامه، وتشابهها واختلاطها، أولها شيوع الأمية في الجاهلية وصدر الإسلام، مما أدى إلى تبدد أخبار كثير من الشعراء وضياع أشعارهم واختلاطها، ودخول الزيف والتمويه عليها، مع أن شعر ذينك العصرين كان أصدق حديثا وأكثر إفصاحا عن شخصيات قائليه من شعر العصور التالية، لو لم تعبث به يد الأمية والنسيان.

ولما انتشرت الكتابة لم تكن الطريقة التي جرى عليها المؤرخون في ترجمة الأدباء هي المثلى: فقد اقتصروا على تواريخ ووقائع - كوفود الأديب على ممدوح أو اتصاله بديوان أمير - لا أهمية لها في شرح نفسياتهم، ولا غناء وراءها في توضيح شخصياتهم، وجاء

<<  <  ج:
ص:  >  >>